الكاتب: محمد شفيق غربال
الناشر: الجمعية الملكية للدراسات التاريخية
تاريخ النشر: نوفمبر 1948
مناسبة النشر: هي مقدمة لكتاب «ذكرى البطل الفاتح إبراهيم باشا 1848-1948»، وأيضًا هي تعديل في مقالة نُشِرَت سابقًا.
هذا الكتاب تحية إعجاب ووفاء وتقدير، يقدِّمها لمقام البطل الفاتح إبراهيم المؤرخون من مصر ولبنان. وهم بذلك يساهمون في احتفال مواطنيهم بذكراه المجيدة.
ففي مثل هذا الشهر من عام 1848م انتقل والي مصر إبراهيم باشا إلى دار البقاء، بعد أن سجل لبلاده نصرًا عظيمًا في صفحة الخلود. وحق على مصر الناهضة الوفية أن تحيي ذكرى مفاخره ومآثره، وأن تشيد بها الآن وعلى مر السنين. وليكن رائدها في هذا وأمثاله تلك الحكمة الرائعة المأثورة عن مليكها الراحل «فؤاد الأول»: «لا يفقه شعب ما سر مستقبله قبل أن يتنبه شعور الاحترام فيه لمآتي أجداده ويدرك مآثر أبطاله؛ فهنا وهنا فقط يستطيع أن يبلغ ذروة الرقي».
وكتابنا هذا ثمرة من ثمرات غرس فؤاد الأول، فقد أمر بجمع ما بقي من وثائق عصري محمد علي الكبير والخديو إسماعيل، ورسم بأن تُعد الإعداد الفني الذي تتطلبه الدراسة العلمية، وبث في حفظتها من روحه السمحة؛ وبدأت بذلك من فيضه نهضة تاريخية ترى آثارها فيما نُشر وفيما سيُنشر من الدراسات التاريخية القيِّمة.
وكان الملك فؤاد الأول في أحاديثه مع المؤرخين يرسم لهم الخطة المثلى للبحث التاريخي، إذ كان يؤمن بأن إظهار الحقيقة هو الغاية الأولى للمؤرخ، كما أنه كان موقنًا بأنه كلما ازداد الباحث تعمقًا في درس الأصول التاريخية لعصر «الوالد الأكبر» — كما كانت تحلو له تسمية جده العظيم — كلما ازداد إعجابًا بشخصية المصلح الكبير وأعماله، إعجابًا يقوم على الفهم الصحيح، وإن هذا الفهم الصحيح لا يتسنى إلا بالرجوع للأصول.
وإن المؤرخ ليحمد الله على وفرتها؛ وذلك أن طريقة محمد علي في الحكم والإدارة استلزمت قدرًا كبيرًا من المضابط والمحاضر والخلاصات واليوميات والتقارير، يتمكن المؤرخ بواسطتها من تتبُّع المسألة الواحدة من العامل الصغير للمجلس الكبير ومقر السلطان، ومن القرية النائية لمسند الولاية، وهذه هي مادة التاريخ.
وإن كل ما في هذه المادة له قيمته. والمتعسف من المؤرخين هو الذي يعد تافهًا ما لا يتعلق بالسياسة العليا وما لم يصدر إلى السلاطين أو ممثلي السلاطين. فإن دفترًا من دفاتر المحفوظات يدلنا على أرزاق الجند وطعامهم ولباسهم لهو وثيقة لها خطرها، ولا يستطاع كتابة تاريخ الجيش المصري إلا بها وبمثيلاتها، وقس على ذلك سائر الشؤون.
وفصول كتابنا هذا تقوم على الوثائق الأصلية، وبصفة خاصة على الأوراق التي استخلصها الدكتور أسد رستم — مؤرخ العلاقات بين مصر والشام في عهد العزيز محمد علي — من المحفوظات الملكية بقصر عابدين العامر ونشرها برعاية حضرة صاحب الجلالة الملك فاروق الأول، أعزه الله تعالى، في أربعة مجلدات ضخمة. وأن مؤلفي هذا الكتاب ليهزهم الفخر أن يصدر مؤلفهم هذا في عهد الفاروق الزاهر، منشئ الجمعية الملكية للدراسات التاريخية وحافظها وراعيها، حفظه الله ورعاه. وهم جميعًا يؤمِّنون على قول أحدهم، الدكتور أسد رستم: «إني حين هُيئت لي الأسباب لدرس المحفوظات الملكية تُركت لي معها الحرية التامة لأصل إلى ما أريد منها، وأستقل في وضع دراساتي فيها دون قيد أو شرط؛ وهذا منتهى ما بلغ إليه العلم من الحرية على مر العصور».
وأن الشهادة التي تشهد بها أوراق المحفوظات الملكية المصرية لمما يستطيع القارئ أن يطمئن إليه كل الاطمئنان؛ فهي أقوال المسئولين من رجال الإدارة وقد دُوِّنت في زمن وقوعها، ولم يقصد بها قائلوها أية مصلحة شخصية أو دعاية عمومية لأنها كانت سرية أو على الأقل غير مباحة للجمهور.
ولعل أهم ما كشفت عنه الأوراق صورة دقيقة جلية لشخصية إبراهيم في أدوار حياته، منذ أيام الصبا عند قدومه لمصر بعد أن استتب الأمر فيها لأبيه فدور الشباب إلى الكهولة؛ وهي شخصية إنسان موهوب، تنمو وتترعرع في يد أب عبقري، وفي وطن خليق بالأبطال، وفي ساعة من الزمان حقيقة بالبطولة.
وما كان إبراهيم إلا المثل الكامل لتلك الصفوة من الرجال التي عمل محمد علي عملًا متواصلًا على تنشئتها وتربيتها وتكوينها. وكانوا جميعًا على اختلاف أصولهم يتفقون معًا في شيء واحد، في أنه لهم هو ولي النعم. تعهدهم بالتعليم، وقلدهم المناصب، وعهد إليهم بخططه، ونفث فيهم من همته وآماله، وأنعم عليهم ورفع قدرهم. وقد وضع علاقته بهم لا على أساس السيد والمسود، بل على أساس آخر: علاقة الأب بأبنائه، يأخذهم باللين أحيانًا وبالشدَّة أحيانًا أخرى، كما يأخذ الأب أبناءه باللين والشدَّة. وهذه أوامره الحكومية قل أن تجد لها شبيهًا في أوامر الحكومات، فكانت في جمعها للنصح والترغيب والترهيب وضرب الأمثال والإشارة إلى أن منفعة الرعية أو مجد الوطن متوقف على ما نيط بعمال الحكومة أداؤه صورة صادقة لشخصية هذا العاهل الكريم. وهذه أيضًا طريقته الإدارية، جعل لكل شأن من الشؤون العامة ديوانًا، وكان لا يتخذ قرارًا في مسألة ما إلا بعد أن يستمع لآراء المجلس المختص بها؛ ذلك لأنه لم يكن حاكمًا فحسب، بل كان طوال مدته مربيًّا ومكوِّنًا للرجال. تحدث مرة إلى رؤسائهم في اجتماع تاريخي فقال: «إن المماشاة والموافقة في الأمور المضرة بالمصلحة والأصول الموضوعة من أعظم الجرائم فيجب الاجتناب عن ذلك. حتى إذا كنت آمر أحدكم شفاهًا أو تحريرًا بقولي له أجرِ المادة الفلانية بهذه الصورة، وحصل منه اعتراض عليَّ وذكَّرني وأفادني شفاهًا أو تحريرًا بأن المادة المذكورة مضرة، فهذا يكون منه عين ممنونيتي الزائدة».
وشاء سعد الطالع أن يحقق إبراهيم في نفسه وفي أعماله كل ما كان أبوه يأمله ويرجوه. كره ما كان يكرهه أبوه، فكان يمقت «الشعوذة والغفلة والرخاوة والغرض والضغينة والمحاباة»، ونشأ وعاش صريحًا جادًّا مترفعًا عن الدنايا مقدِّسًا للنظام «على أساس الإنصاف والإنسانية والكياسة والعدالة والاجتهاد والغيرة». لا يأنف من أن يتعلم ما لم يكن يعلم، فوقف وقفة الجندي في «طابور» التعليم، وجلس جلسة التلميذ، وخالط واستعلم واستمع إلى أحاديث الكُتب وأقوال الرجال. يشارك في وضع الخطط، ويقوم بالتنفيذ، «لا يماشي ولا يوافق» على ما لا يراه غير محقق للمصلحة العامة بل يقول ما يراه، وقد يتمسك برأيه ويصر إصرارًا بلغ في بعض الأحايين أنه طلب الإعفاء من الرياسة مع البقاء مؤديًا للواجب في صفوف الجنود. ترك الراحة وتحمَّل المشاق، وتجلَّد لبث العدل وتشييد العمران للأعقاب والأخلاف.
لقد تجلت عظمة إبراهيم في فن القيادة العسكرية، ولكن فيم تختلف صفات القائد الكبير عن صفات الحاكم القدير؟ إن صفات العزم والحزم والتدبير والجد وسعة الأفق وحُسن التصرف وإدراك العواقب ولطف الحيلة ودقة فهم الطبيعة البشرية والإحسان إلى المحسن ومؤاخذة المقصر، كل هذه من مستلزمات النبوغ في فني الحرب والحكم. لقد تجلت هذه الصفات في إبراهيم قائدًا، أفلا يحق لنا أن نأسى — نحن المصريين — أن القدر لم يُتِح لإبراهيم أن يخلف أباه بعد أن تشرَّب روحه وأخلاقه، وتعلق بخططه ومراميه وآماله، وعاونه في بناء النهضة المصرية زهاء خمسين عامًا!
ولئن كان من سعد الطالع أن كان لمحمد علي إبراهيم، فقد كان من سعد إبراهيم القائد العسكري أن كان وراءه محمد علي. وأي قائد لم يشكُ تدخل الإداريين والسياسيين وتحدُّث الناس فيما لا يفهمون وتحكُّم البعيدين عن مواطن القتال في الخطط والأعمال الحربية؟ لقد شكوا جميعًا اللهم إلا أولئك الذين جمعوا بين المُلك والقيادة، وكم هم؟ لقد شكى إبراهيم أيضًا، ولكن المنصف لا يسعه إلا أن يعد شكواه نتيجة لوهن البدن والأعصاب من فرط ما لقي وما لاقى. فكان في الواقع حرًّا في وضع خططه، طليقًا في تصرُّفه، تلبي حكومة أبيه كل ما يطلب من مال ورجال وعتاد.
أجل، لقد كان محمد علي سعيدًا حقًّا بإبراهيم، وكان إبراهيم سعيدًا حقًّا بأبيه.
في سنة 1805م، قبِل محمد علي اجتماع كلمة الناس عليه وتولى باشوية مصر، ولكنه قبِلها على أن يسير فيها على منهج من وضعه.
وقد أدرك منذ اللحظة الأولى أنه لم يتولَ أمر باشوية، بل جلس على عرش مملكة عظيمة، كل ما حوله فيها يشهد بما كان لملوكها، وأن عناية الله سلمته حكم أمة واحدة يدر نيلها الفيض العميم. كما أدرك بالفكر الثاقب الذي وهبه الله أن لا بد لحكم مصر من انتهاج مناهج جديدة، وهدته مواهبه السياسية لسياسة جديدة يحقق بها رجاء الناس فيه، فيصون أرواحهم وأعراضهم وأموالهم ويرتقي بهم درجات إلى ما لم يكونوا يهدفون. ورأى أن ذلك لا يحتمل التأجيل وأن إعزاز مصر والإسلام يتطلب العمل السريع: القوة التي تصون الكرامة: قوة الحديد والعلم والمال.
ولقد عرف محمد علي أيضًا السياسة الكبرى في طور عنيف من أطوارها: عصر الثورة الفرنسية والفتوح النابليونية، ففي حقبة قصيرة من أحقاب الزمان تجمَّع الشيء الكثير من العناصر الأساسية في تشكيل العلاقات بين الأمم: تسخير قوى الإنتاج وتنظيمها وتنسيقها وتوجيهها لتحقيق غايات قومية، خريطة أوروبا تُطوى وتُنشر، مبادئ هدامة، عروش تقوَّض وأخرى تقام، التفوق البحري البريطاني، تدخُّل روسيا في شؤون أوروبا، العالم العثماني تحت رحمة الأقدار.
بهرته الحركة وصادف ذلك هوى في نفس مشرئبة طموحة، فعوَّل على أن تكون ديدنه، واعتزم أن يكون دائمًا البادئ لا المنتظر.
وكان مما لا بد منه في أول الأمر أن يقيم بناء الحكومة على أساس جديد: إن مصر لا بد أن تتولى أمورها سلطة عامة واحدة؛ فإن تجزئة السلطان وتشتيته السائدين قبل أيامه أدَّيا إلى انعدام فكرة الحكومة انعدامًا يكاد يكون تامًّا فنتج عن ذلك تكوين العصابات الخاصة المسلحة، ونتج عن ذلك إهمال المرافق العامة، ونتج عن ذلك أن كل من يستطيع وضع يده على أموال عامة يفعل ذلك دون تردد، بل ونتج نوع من التفكير يعتبر أن الحكومة ما هي إلا مشاركة في الأرزاق وإن شئت قل نهبًا.
وإذا شئنا أن نجمل وصف مراحل إنشاء السلطة العامة على يد محمد علي وأعوانه، قلنا إن المراحل الأولى كانت مراحل الكشف والضبط والتحقيق والتصفية وبخاصة في أمور الالتزامات، أما المراحل الثانية فكان فيها الانتقال من الالتزام إلى الحجر، ثم يأتي بعد ذلك دور تحويل الحجر إلى وسيلة قوية للإنتاج الجديد، للثورة الاقتصادية المصرية.
وقد بدأ إبراهيم حياته العامة في مرحلة الكشف والضبط والتحقيق والتصفية، بدأها وهولا يزال بعد فتى غض الإهاب، فقام بالفحص في الصعيد وشارك في العملية الكبرى: عملية فك الزمام التاريخية.
وكان إبراهيم في عمله هذا خشنًا خشونة الإجراء كله، ولكن لم يكن هذا إلا وسيلة الخروج من الفوضى والفقر والضعف إلى النظام واليسر والقوة؛ فإن الفساد القديم أدى إلى فقر الجميع، حكامًا ومحكومين، وإلى وجود نوع من الحكومة لا تملك مالًا يمكِّنها من أن تنشئ قوة حربية نظامية أو تطهر ترعة أو تصون جسرًا.
وقد أكسب إبراهيم عمله الأول في الإدارة المالية خبرة بشؤون الفلاحة المصرية تكاد تبلغ خبرة أبيه بها، وعمل في خدمة الزراعة المصرية في ممتلكاته الخاصة وفي مداولات مجالس المشورة التي تولى رياستها فيما بين فترات الجهاد أعمالًا تناولها الدكتور أحمد الحتة في فصل خاص من فصول هذا الكتاب، بل وكوَّن لنفسه في السياسة المالية، وبخاصة ما تعلق منها بالأموال على الأراضي الزراعية، آراء تخالف ما كان عليه العمل جاريًا. قال في رسالة لوالده، تاريخها غاية جمادى الآخرة سنة 1255هـ (9 سبتمبر سنة 1839م)، حين فكر محمد علي في تخفيض عام في المصروفات لإيجاد الموازنة بين الإيراد والمصروف: «وتستدعي الحالة أن يعاد النظر في شؤون مصر كلها لتنظيمها من جديد، فإني وإن كنت واقفًا على أحوال المديريات من قبل، إلا أنني اكتسبت معرفة تامة في شؤون الفلاح منذ أن التزمت القرى لكي أختبر الوسائل المؤدية إلى عمار مصر بنفسي … وقد دفعت لتكاليف هذه القرى التي التزمتها ما كسبته منذ خمس وثلاثين سنة وما زال عليَّ كثير منها؛ أي أنني دفعت لأجل أموال الأطيان الكائنة في مديرية الغربية وبقاياها لسنة 54 مبلغ ثلاثين مليون قرش ونصف مليون، ومع ذلك عليَّ مليونا قرش ونصف مليون عن أموال هذه السنة وبقاياها، وكيف إذن يطيق الفلاح هذه التكاليف الباهظة وكيف يقوم بتسديدها؟ ويظهر جليًّا مما ذكرت ما هو عليه الفلاح من سوء الحال، وهذا ما يجعلني أظن أن الأولى تأجيل موضوع تخفيض المصروفات إلى حين انتهاء مسألتنا [مسألة العلاقة بالدولة العثمانية]، ثم نطلب الدفاتر من الدواوين كلها ديوانًا ديوانًا ومن المديريات مديرية مديرية فيُبحث فيها بحثًا شاملًا، وتُنظم شؤون مصر كلها على ضوء ما يؤخذ منها من المعلومات، ومع هذا كله فالرأي الأعلى لمولانا فإنه أدرى مني في الشؤون كلها».
وكوَّن إبراهيم أيضًا لنفسه آراء في سياسة التعليم، فنزع إلى أن يتخذ من التعليم أجدى الوسائل للارتقاء بالشعب، واهتم بصفة خاصة عندما حمل عن أبيه عبء الحكم بافتتاح مكاتب لتعليم الناس أطلقوا عليها اسم «مكاتب الملة»، على نحو ما كان موجودًا في ذلك الوقت في فرنسا وإنجلترا لتعليم أبناء الشعب «من أقرب طريق وفي أقصر وقت». فلمكاتب الملة غرض جديد غير غرض المدارس الابتدائية، فليس الغرض منها إعداد التلاميذ للدراسة التجهيزية، بل الغرض منها توفير قسط من الثقافة لسواد الشعب؛ لكن هذه الحركة المبشرة بالخير ماتت بموت إبراهيم.
وكان قلب إبراهيم — على نحو ما رأينا — يفيض عطفًا على عامة الشعب، ولا بدع فقد خالط وعاشر أشرف ممثلي الشعب المصري: الفلاح والجندي، وخبر عن قرب ما يستطيعه الفلاح المصري والجندي المصري.
كتب لأبيه في أثناء حصار عكا عندما أذيع أن السلطان قد جيَّش الجيوش لدفع الجيش المصري عن أسوارها: «ومهما بعثوا من القواد العظام والجيوش الجرارة فلا يُعقل أن يرسلوا أو يستحصلوا على أقوى وأشجع من عبدكم المخلص إبراهيم، ومهما بحثوا فلا يمكنهم أن يعثروا على مثل جنود العرب الذين أقودهم أنا».
وكتب إليه أيضًا أثناء الحصار عندما أشير عليه باستعمال النقود لإغراء الحامية بالتسليم: «إني بفضل عظمتكم وجلادتكم الخديوية أرى من العار عليَّ أن أبذل النقود في سبيل قلعة خربة كهذه … [وليست من وسيلة لاستمالة الحامية]، سوى إظهار قوتكم القاهرة وعظمتكم الخديوية الباهرة بتشديد الحصار عليهم من البر والبحر وضرب القلعة بالقنابل والمدافع من كل الجهات حتى يذوقوا مرارة الموت».
وعندما توقع نشوب الحرب مع الأتراك العثمانيين من جديد كتب لابن أخيه عباس، وقد كان محمد علي غائبًا عن مصر يتفقد أحوال السودان: «يا ولدي الباشا، لو طوَّعت [للترك] أنفسهم للنهوض والقيام فلن نكون دونهم، ولن يسبقونا بإذن الله وكرمه ما دامت أرواحنا في أبداننا وحتى لا يبقى منا فرد واحد، وليحفظن الله مصر كما حفظها حتى الآن».
وهذه الثقة بالنفس وهذا الشمم العالي، وهذا الاطمئنان التام مردها لأمرين: للحكومة وراء ظهره، وللجندي الذي يقوده.
لقد حل محمد علي الكبير مشكلة تكوين القوة العسكرية على الوجه الذي أوجدته الديموقراطية الفرنسية وليدة الثورة الفرنسية؛ أي التجنيد العام، وسوَّى بذلك أمرًا استعصى على الحكومة الإسلامية. لقد عمدت الحكومات القديمة إلى استخدام أهل المناطق الجدباء أحيانًا وإلى جمع العبيد بِيضًا وسودًا أحيانًا أخرى؛ حاولت الحكومة الإسلامية هذا الحل أو ذاك، وكان سر اضطرابها وتزعزع كرسيها ونفاذ مواردها. وجال فكر محمد علي في المشكلة واهتدى إلى اقتباس الحل الذي يتفق مع مقتضيات العصر الجديد، واستخدم للتدريب ضباطًا أوروبيين، وأنشأ معاهد الدراسات العسكرية، وتكوَّن بذلك الجيش المصري. كتب محمد علي إلى ناظر الجهادية: «إن مؤسسة الجهادية هذه، أعزها الله، لهي في حد ذاتها نعمة جليلة وأمنية بلغ من شرف قدرها أني مازلت منذ عشر سنين متعللًا برجاء إدراكها، قائلًا أيكون لي أنا الآخر سعادة نيلها! بل ما فتئت ألقي بنفسي وأولادي وعيالي وبعرضي ومالي وبذلك العدد الكبير من أتباعي وأصدقائي الذين هم غرس يديَّ وثمرة تعهدي، ألقي بكل أولئك في المهالك وأعرِّضهم للمضار والأخطار آملًا في إحداث هذا المسلك الجهادي».
اندمج إبراهيم في هذا السلك الجهادي اندماجًا تامًّا، جسمًا وروحًا، من أوَّل الأمر. لحق به متعلمًا — وهو القائد المظفر في الجزيرة العربية — وقاده من نصر إلى نصر بين السهل والحَزن في المورة وفلسطين ولبنان وسوريا والأناضول. وتفصيل هذا كله في الفصول التي وضعها الأستاذ محمد أحمد حسونة بك والضابطان أحمد فهيم بيومي وعبد الرحمن زكي. وأن الجمعية لتغتبط أن جمعت المدنيين والعسكريين من المؤرخين لخدمة التاريخ القومي.
وإن ما ذاع عن حرمان المصريين من مناصب القيادة في الجيش والأسطول لمصريتهم لهو وهم يحتاج أمره إلى تبديد، فلم يعرف جيش من جيوش العالم في ذلك الوقت حتى جيوش الثورة الفرنسية شيوع خطة الترقية من تحت السلاح (كما في الاصطلاح) إلى رُتب القيادة، ولا تعرفها الجيوش الأجنبية في وقتنا الحاضر إلا في حدود ضيقة جدًّا نسبيًّا، وهذا على الرغم من شيوع التعليم في جنود الزمن الحاضر. والحال أن ضباط الجيوش الأوروبية في وقت محمد علي وفي وقتنا الحالي ينتمون للطبقة الوسطى. إذا تحققنا ذلك وعرفنا أن ذوي اليسار من أهل مصر لم يقبلوا بعد في عهد محمد علي على اختيار العسكرية لأبنائهم بسبب ابتعادهم عنها قرونًا عديدة، أدركنا لِمَ خلت وظائف القيادة في الجيش المصري في عهده من المصريين، وأن لا أساس لما زعموه من تعصُّبه للترك عليهم. بل إن كبار رجال العسكرية الأوروبيين كثيرًا ما عبَّروا له ولإبراهيم عن رأيهم بأن أضعف ما في جيشه ضباطه غير المصريين، وشاركهم في هذا الرأي مؤرخ الجيش المصري الجنرال فيجان ونسب ضعف الضباط إلى عدم إقبال أبناء الطبقة الوسطى إذ ذاك على احتراف العسكرية. وإنا نقرأ في أمر من أوامر الباشا أصدره إلى محافظ دمياط «بأن علم بالاحتفالات التي قوبل بها آلاي حسين بك من الأهالي والقناصل وبما تفوَّه به علي أغا ناظر السلخانة وقوله في محفل الاستقبال: «صار الفلاحون العمي عساكر، مهما كانوا لا يكونون مثل عساكرنا الترك. وعليه فاضربوه مائة نبوت على إليته وينفى وإن عاد يُصلب». هذا ما حدث لعلي أغا عندما أخذته النعرة القومية. وعندما تحرَّج الأمر بين مصر والدول الكبرى وتحمس الناس في الحاضرتين — القاهرة والإسكندرية — لدفع العدوان عن وطنهم وألَّفوا «حرسًا وطنيًّا» أسند محمد علي لرؤسائهم — وهم من «أبناء البلد» — رتبًا عسكرية نظامية. ولم يكن محمد علي أو إبراهيم الرجل الذي يغمط للمصريين حقًّا أو يطوي لهم فضلًا.
ولم تكن القوَّة في نظر محمد علي إلا وسيلة لا غاية، لم تكن إلا آلة العيش الكريم. فقد كان بطبعه كارهًا لسفك الدماء، مؤْثرًا الاعتدال. استعرض الشيخ رفاعة — أحد بناة النهضة المصرية — حروب محمد علي وانتهى إلى الملاحظة الدقيقة، وهي أن تلك الحروب «لم تكن من محض العبث ولا من ذميم تعدِّي الحدود، إذ كان جُل مقصوده تنبيه أعضاء ملة عظيمة تحسبهم أيقاظًا وهم رقود».
أجل، لقد رسم محمد علي لنفسه منذ الأيام الأولى مشروع إحياء العالم العثماني وسار في تنفيذه بخطى ثابتة متئدة. رأى محمد علي السلامة في الوحدة لا في التجزئة، والقوَّة والرفاهية في إدارة عقل واحد لمُلك متنوع الموارد، متنوع السكان، يملك أقصر الطرق بين الغرب والشرق.
وفي فترة توازن القوى التي تلت معاهدة تلست (1806–1812م)، وخلف سواحل البحار العربية التي كانت تكوِّن الحدود المبهمة للعالم العثماني، كانت أعمال محمد علي الأولى لإحياء القوَّة العثمانية.
وكانت الدولة منذ أن عجزت عن إقصاء البرتغاليين ومن جاء بعدهم من رجال البحر والتجار الأوروبيين عن البحار العربية، ومنذ أن تخلت عن بلاد اليمن في منتصف القرن السابع عشر، قد تركت (فيما عدا الاهتمام الذي لا غنى لها عنه بالحجاز) شؤون البحار العربية ومناطقها لأهلها وللاستعمار الأوروبي. فنمت أنواع مختلفة من السلطان العربي في مناطق الخليج الفارسي وسواحل الجزيرة الجنوبية وسواحل المحيط الهندي والبحر الأحمر؛ وانعزلت تلك الشياخات والإمارات والسلطنات عن الحياة العثمانية واضطرت إلى تدبير معاشها وتسوية علاقاتها بالأمم الأوروبية البحرية على مختلف الأوضاع.
وكان لحكومة السلطنة نوع مبهم من حقوق السيادة تباشرها من أربع قواعد، من ولاية جدَّة وتلحق بها ولاية الحبش الممتدة امتدادًا لا يمكن تحديده على ما نعرفه الآن بسواحل السودان المصري وإريتريا والصومال الفرنسي ومن مصر ودمشق وبغداد. وقد عملت الدولة من قواعدها الأربع على أن تبقي البحار العربية بركًا آسنة لا على أن تكون شريانًا من شرايين التجارة العالمية.
وقام محمد علي أوَّل الأمر بتأمين الحجاز، وما إن تم له ذلك حتى انفتح أمامه ميدان فسيح الأرجاء خليق ببذل الهمة وبالنظرة النافذة وبالأمل الواسع. فالبحار العربية ومناطقها أجزاء أساسية من العالم العثماني، أهملها السلاطين إهمالًا معيبًا وهي شرايين الحياة بين الشرق والغرب، وقد تصلبت، ولا بد من أن يجري فيها الدم من جديد. وخلف تلك السواحل في أفريقية أجزاء من دار الإسلام، مشتتة فاترة الحياة، ولا بد من وصلها بعضها ببعض وبالعالم العثماني ومن جعل ذلك العالم وحدة حية.
وتولى إبراهيم القيام بهذه المهمة في إحدى مراحلها الخطيرة، وكان هذا أوَّل عهده الحقيقي بالقيادة العسكرية المستقلة، وأدَّاها أداء فيه كل الدلالة على ما سيقوم به في المستقبل. كتب القنصل الإنجليزي بمصر، «هنري صولت»، في رسالة من القاهرة في أوائل 1817م: «لقد دلت معاملة إبراهيم للقبائل البدوية على امتلاكه ثلاث ميزات تبشِّر بالفوز في النهاية: حزم في معاملة أعدائه، سخاء في البذل، وفاء بالعهد».
وتجد تفصيل تاريخ إبراهيم في الجزيرة العربية في الفصل الذي عقده الدكتور عبد الحميد البطريق لهذا الموضوع.
وقد تلت انتصارات إبراهيم سنوات استقرار واستعداد في مناطق النفوذ المصري من الجزيرة العربية، وقف فيها التقدم نحو الشرق إلى الخليج الفارسي ونحو الجنوب إلى اليمن أمران: أولهما انتظار تأليف قوات عسكرية نظامية، وأما الثاني فاستخدامه قواته غير النظامية في فتوح أخرى أوحت بها سياسة البحر الأحمر إذ هي ألصق بها. فقصد للفتوح في المناطق الممتدة خلف ما عرفنا باسم ولاية الحبش أو ما يعرفه المحدثون باسم فتوح السودان، وكان نصيب إبراهيم فيها ضئيلًا.
عمل محمد علي في الأقطار العربية في الجزيرة وفي السودان طليقًا من كل قيد، لا دخْل لحكومة السلطان في خططه ومشروعاته. ثم حدث أن قام اليونان بثورتهم وتحركت جيوش السلطنة وأساطيلها وجيوش محمد علي وأساطيله لقمع تلك الثورة. وبدأ بذلك فصل جديد في سياسة محمد علي، فصل يمكِّنه من أن يتبين أمرين أساسيين: الأول مدى إمكان التعاون بينه وبين حكومة السلطنة في إحياء القوَّة العثمانية، والثاني موقف الدول الأوروبية منه ومن حكومة السلطنة.
وجَّه محمد علي نحو بلاد اليونان الحملة الكبرى بقيادة إبراهيم: جيشه المصري الجديد وأسطوله الأول. وكانت لأسطوله منازلات مع الأسطول اليوناني خرج منها سالمًا واستطاع أن ينزل وجنوده بلاد المورة. وسار إبراهيم من نصر إلى نصر إلى أن تم له اكتساح بلاد المورة وانتقل منها إلى الأقطار اليونانية شماليها. واتهمه المتخرصون بأنه عمل على استئصال الأمة اليونانية وتطهير أرضها قضًّا وقضيضًا ليُنزل بها عربًا أو سودًا مسلمين. وقد دفع عنه المؤرخون المحدثون هذه الفرية، وشرحوا أن في مثل حرب المورة (أي في الحرب ضد ثورة قومية) يصعب على القائد أو يستحيل عليه أن يفرِّق في عملياته الحربية بين أعدائه المحاربين من الجنود وأعدائه المحاربين من غير الجنود.
ولما ظهر للأوروبيين أن لهيب الحرية اليونانية سوف ينطفئ في بحر من الدماء تحركت الدول للعمل الإيجابي الذي حاولت تجنبه زمنًا. وانتهى التدخل بكارثة تحطيم الأسطولين المصري والعثماني في خليج نوارين، وبنزول جيش فرنسي في المورة، وبإعلان الروسيا الحرب على الدولة العثمانية. وأمر محمد علي ابنه بالانسحاب والعودة.
ومضت الثورة اليونانية بعبرها. وبان لمحمد علي أن حكومة السلطان تفهم العمل معه على وجه استغلاله إلى أقصى حدود الاستغلال، وليتها كانت تُحسن ذلك فهو لا يكره إطاعة حكومة عليا رشيدة تعمل على بلوغ أهداف العزة والكرامة والرفاهية. ولكن ماذا أثبت السلطان ورجاله في أزمة نوارين وفيما قبلها وبعدها؟ لقد أثبتوا عجزًا كبيرًا. وبان له أيضًا أن الدول العظمى قد تتحد، وبان له ثالثًا أنه لكي يساوم ينبغي أن يكون بيديه ما يساوم به. فقل وثقه بإمكان وضع سياسة مشتركة بين القاهرة والقسطنطينية، وزاد إيمانًا بأن محمودًا ورجاله يسيرون قُدمًا نحو الهاوية. فأحب أن يتخذ العدة للمستقبل، وأن يتخذ الضمانات اللازمة.
وهذه الضمانات حسية ومعنوية: توطيد النفوذ المعنوي في العالم العثماني ولدى الحكومات الأوروبية بالمضي في سياسته العمرانية، ونشر حكمه المباشر في أقطار أخرى من العالم العثماني يقيه مُلكها شر حكومة السلطنة، ويعطيه مُلكها الموقع الآمن والموارد التي يستطيع بها أن يكون على حال من القوة تمنع عنه أطماع الطامعين.
وما هي تلك الأقطار؟ الولايات الشامية الأربع: حلب وطرابلس ودمشق وصيدا، وبعض المناطق الساحلية في الجزيرة العربية على الخليج الفارسي والبحر الأحمر، هذا أكيد، والعراق والمناطق فيما بين الشام والأناضول، هذا مما يُترك للظروف. والأقطار — كما ترى — هي في الجملة مما يكوِّن (على حد تعبير الوثائق) عربستان أو ما نسميه دار العروبة.
فهل تصوَّر لها كيانًا سياسيًّا أو ما نسميه وحدة عربية؟ سؤال كبير؛ إن أجبنا عنه سلبًا عدونا الصواب ونسبنا إليه قلة إدراك لعناصر وروابط بارزة: لغة واحدة وإرث ثقافي مشترك ومصالح مشتركة وبالنسبة للحياة الاقتصادية العالمية كتلة واحدة. وإن أجبنا عنه إيجابًا عدونا الصواب أيضًا بعض الشيء ونسبنا لعصر سابق ما هو — على وجه التحقيق — من خلق العصور اللواحق. وقد لا نعدو الصواب إن قلنا إن محمد علي أدرك الفكرة في عمومها وأنها مما يمكن التشييد عليه في حالة الانفصال عن السلطنة وهذا ما لم يكن قد قرره بعد، بل ترك تقديره تبعًا لظروف الحال؛ إن حتمت تلك الظروف التقسيم أمكنه أن ينقض ما حدث في القرن السادس عشر وبناء العالم العربي من جديد. ولكنه لم يكن قد يئس بعد من مستقبل الوحدة العثمانية وإن كان قد يئس من السلطنة.
هذا عن محمد علي، وماذا عن إبراهيم؟ تدل الوثائق على أنه استحث والده على اتخاذ خطة الهجوم على الولايات السورية في سنة 1831م. كما تدل أيضًا على أنه كان أسرع منه لتصور الوحدة العربية بل وتحدَّث عنها. والثابت أيضًا أن انتصاراته المتوالية على الجيوش التركية دفعته — كما هو معروف — للنصح بمواصلة الهجوم حتى مقر السلطنة.
لم يقبل محمد علي أن يفعل ذلك ولا يسع الباحث المنصف إلا أن يعترف بأن رأيه كان الأصوب.
وبدأت فترة عاد فيها الاتصال التاريخي بين مصر والشام في ظل حكومة واحدة، وقد عقد الدكتور أسد رستم فصلًا قيِّمًا لموضوع إدارة الشام: روحها وهيكلها وآثارها. وأنه لمما تغتبط له الجمعية الملكية للدراسات التاريخية أن يتولى كتابة هذا الفصل مؤرخ لبناني ممتاز، استطاع أن يفي الموضوع حقه، وأن يبين ما للإدارة الإبراهيمية للشام وما عليها. أوليس هذا في ذاته دالًا على أن ما بنى إبراهيم لم يذهب هباءً وأن البذرة التي بذرها نمت وترعرعت شجرة طيبة، أصلها ثابت وفرعها في السماء؟
وانقضت تلك الحقبة من الزمان بإرغام الجيش المصري على الانسحاب من كل فتوحه. وهنا يستوقف قارئ الوثائق تبدُّل في المواقف: محمد علي يتخذ الجرأة وإبراهيم يفضل التريث، بل ونجده يفقد (حتى بعد انتصاره الرائع في نزيب) كل أمل في إمكان اكتساب طوائف أهل الشام لحكمه. قال العزيز في كتاب لإبراهيم: «لا تهدف الدول إلى تعضيد الدولة العثمانية ولكنها ترمي إلى إضعاف الطرفين كي يتسنى لها الاستيلاء على البلاد الإسلامية بسهولة، ولذا فإن قبول تدخُّل هذه الدول خيانة للملة ولتمام استقلالها. فبدلًا من أن نقبل هذه الخيانة فنُذكر باللعنة إلى يوم القيامة أجدر بنا أن نموت في سبيل الدين، فنُشيد بذلك دنيانا وآخرتنا معًا؛ هذا إذا غلبونا، وأما إذا لم يغلبونا ولم يستطيعوا أن يفعلوا شيئًا فحينئذ نجد في الدنيا الجنة التي يبحث عنها الناس في الآخرة. فيدوي في الآفاق صدى بطولتنا وسُمعتنا الطيبة ويذكرنا العالم بخير إلى يوم القيامة؛ هذا لا ريب فيه، والله كفيل بعباده».
وقد لا يعدو المؤرخ الصواب إذا نسب موقف إبراهيم في الأيام الأخيرة في الشام لما أصابه من العلل والأمراض، كان آخرها ذلك اليرقان الحاد الذي لازمه أثناء مأساة الانسحاب نحو مصر.
والنقد سهل من بعيد، وأجمل منه أن نبعث على البعد بتحية إعجاب وإجلال للشيخين اللذين صمدا للمحنة مرفوعي الرأس موفوري الكرامة. ذهبت فتوحهما واختفى أسطولهما وانكمش جيشهما ولكنهما بقيا مهيبي الجانب، عاليي الصيت، يتألق من جبينهما جلال المشيب ونور المجد، فمنعا عن مصر في السنوات التي بقيت لهما أن تنزل إلى ما قدَّره لها أصحاب تسوية سنة 1841م؛ إلى مرتبة النيابات العثمانية الراكدة ومناطق المشروعات الاستغلالية الأوروبية.