إن معرفة الرجال كانت مما اهتم به أسلافنا اهتمامًا شديدًا، فعدوها عنصرًا أساسيًّا من عناصر النقد العلمي، إذ كانت الرواية والأخذ عن العلماء أهم وسائل التعليم والتعلم ونقل العلوم؛ وبذا كانت كُتب «الطبقات» من أغنى ما نجد في المكتبة العربية. وترتيب الرجال في طبقات له دلالته على ما أشرنا إليه من أهمية عنصر «الرواية» في الحركة العلمية، وكُتب الطبقات متنوعة كثيرة، فهناك طبقات المحدِّثين والمفسرين والنحاة والمتصوفة والفقهاء على اختلاف مذاهبهم، والحكماء وهلم جرًّا.
بَيْدَ أن العرب لم يقتصروا في فن التراجم على وضع كُتب الطبقات، فإنهم ترجموا لكل ذي شهرة، ولكن تقل عندهم الترجمة التحليلية التصويرية لرجل واحد كما نراها في الآداب الإفرنجية وفي الأدب العربي الحديث، وتكثر لديهم مجموعات التراجم: إما عامة من نوع وفيات الأعيان، أو خاصة برجال قرن من القرون أو قطر من الأقطار أو حاضرة من الحواضر. وهي تراجم موجزة يهتم المترجم في إيرادها بتقرير أهم ما عُرف أو ما تنبغي معرفته عن الرجل المترجَم له. وأجملها جميعًا وفيات الأعيان؛ فالكتاب — على الرغم من أنه متفرق بحكم طبيعة موضوعه، وعلى الرغم من أن غاية المؤلف الأساسية كانت التحقيق العلمي — يتسم بجمال فني واتساق كامن.
وإننا نهتم الآن بالتراجم على أسلوب آخر ولأغراض أهم مما كان في الماضي، وتعنى الجمعية الملكية للدراسات التاريخية بإعداد معجم كامل شامل لرجال مصر منذ أقدم العصور حتى الآن، وهو عمل ضخم لا يعادله معاجم الألمانية والإنجليزية والفرنسية والأمريكية التي نعرفها؛ وذلك على الأقل بحكم طول التاريخ المصري. وطريقة الجمعية في إعداد المعجم أن تجمع ما يتيسر لها من التراجم في طوائف وأن تنشر ما يشجع لها من ذلك في مجلتها أولًا بأول، وقد بدأت مثلًا بتراجم الحكمدارين المصريين في السودان. ويَسُر الجمعية أن يعاونها في ذلك كل من كان لديه أوراق ومستندات وحقائق غير منشورة عن أعلام المصريين، ولن تنشر شيئًا إلا بإذن صاحبه ولن تنسبه إلا له.
والدراسات التي نتولى تقديمها في هذا الحديث لن تتناول «الولاة»، فقد آثرنا أن نترك التحدث عنها للمناسبات السنوية أو الخاصة، واقتصرنا على العظماء الذين برزوا في عهدهم.
وفي معرض التحدث عن هؤلاء العظماء نهجنا منهج ربط شخصية المترجم له بحركة هامة، فيعنى المتحدث بصفة خاصة ببيان أثر الرجل في الحركة المقترنة به. ولم نهتم برجال الحرب والسياسة فحسب، بل تعديناهم إلى رجال العلوم والأدب والإدارة والفنون. ولنضرب الأمثلة على المنهج الذي ستسير عليه قرنًا مثلًا دراسة شخصية علي بك الكبير المشهور بحركة استقلال الولايات عن الدولة العثمانية، وعلى هذا الوضع يتبين السامع حقيقة بواعث ومرامي وحدود حركة علي بك نفسها، ويتسنى له بذلك أن يدرك أسباب القوة وأسباب الضعف في حركته: لِمَ وجد من يناصره أو يؤازره في المورة أو في فلسطين؟ ولِمَ كانت خاتمة المحاولة الفشل؟ لأن الحركات الانفصالية كانت لا تزال بعد في أول أمرها ولم تبلغ إذ ذاك مبلغ الحركات القومية بالمعنى المألوف. ولنختر مثلًا ثانيًا، سنتحدث عن الشيخ رفاعة وحركة النقل للغة العربية في القرن التاسع عشر، فيعرض المتحدث لأثر الشيخ الخطير في الحركة؛ فقد كان مؤسسها بحق، وضعها على أُسس محددة، وعيَّن لها أهدافًا، واختط لها مناهج وطرق، وأعد لها الرجال. ولنختر مثلًا ثالثًا وآخر رابعًا أطباء مصر الأُول في العصر الحديث وحركة التعليم الطبي الحديث باعتبارها عنصرًا من عناصر تولي الدولة واجب العناية بالصحة العامة على أساس غير الأساس القديم فأصبحت أكبر من «عمل خير» أو «إحسان»، وكذلك مهندسو مصر الأُول وحركة المنشآت العامة باعتبارها كذلك عنصرًا آخر من عناصر انشغال الدولة واشتغالها بتنمية الموارد العامة، وهكذا.
وسيلاحظ المستمعون أن المشهورين من رجال العصر الحديث الذين ستُعرض عليهم شخصياتهم وآثارهم لا ينتسبون إلى جنس واحد ولا ينتمون إلى طبقة واحدة، بل سيلحظون انتسابهم وانتماءهم لأصول وجنسيات وطبقات متنوعة، ريفية وحضرية، مصرية عريقة أو حديثة أو أجنبية، فمنهم الريفي الصرف من المنوفية، أو الشرقية وابن الصعيد القاصي أو الداني، والقاهري أو الطنطاوي، ومن أولئك وهؤلاء من عرف لنفسه نسبًا للحجاز أو الشام والمغرب بعيدًا كان أو قريبًا أو من لم يعرف غير مصر لأسلافه وطنًا. وقد تفاوتوا كذلك يسرًا وعسرًا وإن كانت رقة الحال هي الصفة الغالبة، كما تفاوتوا كذلك في اشتغال أسلافهم بالعلم وطلبه بالأزهر ومعاهده، فمنهم من انتسب لأسلاف اشتغلوا بالعلم وخدموه في بلادهم ثم انصرفوا في عهد محمد علي وخلفائه نحو معاهده الجديدة، ومنهم من لم يكن لأسلافه عهد به فلحقوا بمعاهد محمد علي بناءً على فرص أتيحت لهم أو استجابة لرغبة ملحة في اللحاق بأهل الكتابة وما إلى ذلك، وكذلك نجد منهم من جمعهم محمد علي وحلفاؤه الأقربون أحداثًا من المماليك والأحرار من أبناء العالم العثماني والأقاليم السودانية أو من سبي المورة أو اللاجئين لمصر منها. وكذلك تباين أمرهم من حيث الدين، فمنهم من كان قبطيًّا أو من نصارى السوريين والأرمن، إلا أن الغالبية كانت من المسلمين.
يرجع هذا التفاوت والتباين في أصول شخصياتنا البارزة لسر دقيق يتبين لنا أمره إذا نسبنا الأعلام — موضوع هذه الدراسات — لثلاثة عصور تاريخية، العصر الأول — عصر بائد — ينتمي إليه شخصيًّا علي بك الكبير ومراد بك ومن اشتهر أمره من المماليك، وقصة إعداد المملوك للحرب والحكم معروفة، ثم ظهور الواحد منهم على أقرانه بالسيف وبالخديعة وبالكفاية والحظ كذلك لا حاجة بنا إلى الإفاضة فيها. وفي العصر الثاني ويشمل حكم محمد علي الكبير وحكم خلفائه عباس وسعيد ولحدٍّ ما حكم إسماعيل، فكان ظهور الشخصيات البارزة أثرًا من آثار محاولة الولاة خلق «صفوة» من الرجال خلقًا. وفي العصر الثالث وهو عصرنا بمقدماته السابقة للقرن العشرين واللاحقة به، فله ظروف أخرى غير ظروف العصر الثاني تتميز: أولًا بزوال ما يصح أن نسميه «ميوعة» الفواصل بين الطوائف والطبقات؛ أي أن الاتجاه في العصر الحديث كان نحو درجة من تثبيت الفوارق بين الناس، ثانيًا بازدياد عنصر الحرية في شؤون الأفراد والحكومات واتجاه العناية نحو الكثرة لا القلة، ثالثًا باختفاء صفة «الموظف» في الشخصيات البارزة وظهور رجال من طراز الزعيم القومي أو السياسي وهكذا. هذا ولما كانت أحوال الشخصيات البارزة في عصرنا أقرب إلينا فإنه يَحسُن بنا الاكتفاء بالإشارة إلى مميزاتها الثلاثة السابقة الذكر، ولنعد إلى العصر الثاني — عصر محمد علي وخلفائه — فزيادة التعريف ألزم له.
أخذ محمد علي الكبير — كما هو معلوم — لفكرة «الحركة» في سياسة المجتمع، وكان بهذا محققًا لقانون قديم من قوانين تطور الأمة الإسلامية؛ هذا القانون هو وجوب بعث حافز من دعوة أو عصبية يُخرج الأمة من طور إلى طور، وقد يكون مصدره داخليًّا وقد يكون خارجيًّا، ولكن أثره دائمًا أشبه ما يكون بأثر الخميرة في العجينة تُكسبها سرًّا من أسرار الحركة. وقد عبَّر هو نفسه عن الأخذ بفكرة الحركة وعن كونها تتم على يد صفوة القوم أحسن تعبير، فقال في خطبة له في آخر أيامه: «إن الذي أذكره من أحوال العالم لا بد من أن يكون معلومًا لديكم إجمالًا، وذلك أن أفعل الملل الموصوفين بالقدرة والقوة لم يكونوا في الأصل من أصحاب الاقتدار واليسار الذين هم عليه الآن بل كان كل منهم جاريًا على طراز قديم، ثم ظهر بعد ذلك ذوات من أصحاب الانتباه فأخذوا يجهدونهم بوسائل حتى إنهم بسبب ما أثمر من سعيهم واجتهادهم في حقهم علموا قيمة محبة الوطن فكان ذلك سببًا في تقدُّمه».
على هذا النحو كان لا بد له من خلق الصفوة بمختلف أساليب التربية والتكوين، وقد رأينا كيف جمع رجالها من شتى العناصر، كفلهم أطفالًا ورباهم في مدارسه بمصر وأوفد منهم لأوروبا وقلدهم مناصب الدولة وأنعم عليهم بالأرزاق السخية من مال وأرض وشرَّفهم ورفع قدرهم بين الناس، وانطبعوا جميعًا على تباين الأصول بالطابع العثماني (أو — كما عرفناه — العثمانلي) في آداب السلوك وتنظيم المنزل وجرت ألسنتهم بالتركية إما طبعًا وإما اكتسابًا. إلى هذا النوع من الناس انتمى عظماء الرجال الذين برزوا في عصر محمد علي وخلفائه، وستسمعون إن شاء الله [في] أحاديث هذه السلسلة إلى ما يقوله عنهم ذوو العلم بخبرهم.