علَّمت نفسي أن أتعلم من الحياة أنها تستحق أن أحياها، ولا أدري على وجه التحقيق كيف ومتى ولِمَ بدأت ذلك، أكان هذا لسعد الطالع — إن صح أنه كان سعيدًا — أو كان لنوع المزاج الذي وُهبته — إن كان هناك معنى لما يقال في أنواع الأمزجة وآثارها — أو كان للبيئة السعيدة التي نشأت فيها؟ وربما كان هذا العامل الثالث أقوى ما أعدني لتعلُّم الدرس.
على أني أعلم علم اليقين أنني منذ أن وعيت، ومنذ أن أخذت أنظر في نفسي وفيما حولي، ومنذ أن حاولت الوقوف على أسرار الأصول والمصائر، ومنذ أن جاهدت لأقيم أفعالي على أساس من المعقولية ولأوجهها لغايات مفهومة، وأنا موقن بأن الحياة تستحق أن أحياها، وأن نظرتي هذه إليها خليقة بأن تكون دستور سلوكي في فترة العمر، وأن ينظم على أساسها ما بيني وبين الناس.
ولا أستطيع أن أزعم أن لهذه النظرة للحياة قيمة فلسفية أو مذهبية … ولذا فإني لم أُحملها ولا أُحملها أكثر مما تطيق، ولم أتخذ منها يومًا ما وسيلة لتفسير أصل أو مصير. ولكنني وجدتها تقبل صحبة غيرها من المذاهب طيعة معتدلة، وتتمشى مع ما في الوجود من الخير الكثير والشر المستطير، ولا تناقض الرأي القائل بالارتقاء أو الآخر الذاهب إلى أن الخراب قضاء محتوم أو الإيقان بأن الكون يخضع لنظام، وإن كان قدر البشرية فيه ضئيلًا أو على الأقل غير واضح المعالم.
ولم أجد من ثم دستورًا خيرًا من الإيمان باستحقاق الحياة للحياة، ولم أجد أحسن منها مثلًا لفكرة «الوسط الذهبي» الذي تحدَّث عنه اليونان أو كما نقول: «خير الأمور الوسط»؛ إذ هي لا تسمح للنجاح بأن يدفع الإنسان في طلب المستحيل، ولا تمكِّن الفشل من التعطيل، فلا زهو ولا بطر ولا إفراط ولا تفريط، تقبل الناس على ما هم عليه ولا تطلب منهم ولا تطالبهم بما هم عنه عاجزون.
ولم أتعلم الدرس من حياتي أنا بالذات وحدها ولا من حياة جيلي وحده … بل كان معلمي الإنسانية كما احتوتها دنيا التاريخ وجعلتها دنياي … أعمارها عمري وأجيالها جيلي، وناسها أجمعون معاصري … فلم أهتم بدنيا الطبيعة، ولا بالإنسان العاري ذي الظُفر والناب … بل كان إنساني الإنسان الناشئ في عشيرة تكفله ببرها وحنانها، تطعمه وتكسوه، وتقيه الغوائل، وتلقنه معارفها، وتُكسبه آدابها وشرائعها، وتربط مصيره بمصيرها … ومن هذا السجل المبسوط تعلمت أن الحياة تستحق الحياة.
وطريقتي تجري على قاعدة الجمع بين الاتصال والانفصال، فأتصل بشؤون الحياة أحيانًا، وأنفصل عنها أحيانًا أخرى، أو يكون الأمر مزيجًا من الخطتين؛ وهذا كله إرضاءً للضمير، أو تحقيقًا لمنفعة عامة، أو درءًا لشر. والدافع الأكبر في جميع الحالات هو أن أحفظ حقي إنسانًا مسئولًا محاسبًا مع ما يؤديه من خير وما يقترفه من شر، وأن أؤدي حق العشيرة علي.
وقد قرأت ما حكاه أديب عن جماعة القنافذ، كانت إذا التصق آحادها طمعًا في الدفء أو دفعًا للأعداء آذتها جميعًا أشواكها، وكانت إذا تباعدت فقدت الأمن والحرارة؛ فكان عليها أن تسوي ما بين القرب والبعد، ما بين الاتصال والانفصال.
ولا يستطيعن أحد أن يرسم حدودهما رسمًا دقيقًا وأن يعيِّن لكل ظرف ما يناسبه، فلا بد من ترك تقدير كل هذا للفرد، إلا أنه في سبيل الكشف عن الطريق وتبين المنهج الصالح، لا يستغني عن درس سيَر الرجال. ولقد أدركت ذلك عندما انتهيت من دراستي الثانوية، فاخترت أن ألحق بمدرسة المعلمين على كره من يهمهم أمري لهذا، وكان أساس اختياري أنها كانت، مع التزامها بإعداد المعلمين في أضيق الحدود، المعهد الوحيد في مصر إذ ذاك الذي يصلني بالدراسات الإنسانية. وتم لي أن مكنتني المدرسة من متابعة تلك الدراسات على نطاق أوسع في المعاهد الخارجية، وتهيأ لي بذلك الإطار الذي أعمل فيه مواطنًا مصريًّا، وإنسانًا جادًّا في أن يجعل حياته جديرة بأن يحياها.