الناشر: مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر (الكتاب السنوي العشرون الصادر عن المجمع المصري للثقافة العلمية)
تاريخ النشر: أبريل 1950
سيدي الرئيس، زملائي أعضاء المجمع، سيداتي سادتي:
اختار المجمع المصري للثقافة العلمية الصحاري المصرية موضوعًا لدورة هذا العام، ويرجع اختيار هذا الموضوع لباعثين: أحدهما قومي والآخر دولي. فأما الباعث القومي فإننا نرده إلى إنشاء معهد فؤاد الأول للصحراء، وهو المعهد المشمول برعاية حضرة صاحب الجلالة مولانا الملك المعظم. والمعهد — كما تعلمون — من مشروعات ملك مصر العظيم فؤاد الأول، طيب الله ثراه، ويمثل فكرة من أفكار ذلك العقل الكبير وذلك الأفق المحيط بكل شيء، وذلك للوقوف على أحدث تطورات العلم في العالم كله مما نعهده جميعًا في فؤاد العظيم. ولقد وضع جلالته أُسس المشروع وأفاض عليه من جوده وبره فرصد له المال اللازم، وأقام له ذلك البنيان الشاهق في مصر الجديدة في موضع تتلاقى فيه البادية والحاضرة، ويكون أول وآخر ما يطلع على الغادين والرائحين الذين يعبرون تلك المنطقة من أرض مصر إلى أنحاء المعمورة. وكانت الحرب العالمية الكبرى فعطلت التنفيذ بعض الشيء إلى أن أخذ بيده مليكنا المعظم، ونفث فيه من مضاء عزمه، فدخل المشروع مرحلته النهائية وسيبلغ نهايتها في آخر عامنا الحالي بإذن الله.
والغرض الأساسي من معهد فؤاد الأول للصحراء هو تنسيق الدراسات الصحراوية، وهي دراسات تتوزع بين الكليات الجامعية والأقسام الفنية بمختلف وزارات الحكومة، وكان لا بد من إنشاء معهد للتنسيق يمنع وجوده التكرار والتضارب، ويملأ ما بين الجهود المتفرقة من فجوات، وينبه إلى تلافي التفريط والإفراط؛ وليس من قصده إذن أن يحل محل المعاهد الجامعية والأقسام الفنية، بل القصد الأساسي — كما قلنا — هو الوصل والربط والتنظيم.
وأما الباعث الدولي فيرجع إلى أن منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) قد تبنت فكرة إنشاء معهد دولي لشؤون المناطق القاحلة، إذ إن ذلك يدخل في نطاق مهم من مناطق جهودنا ألا وهو تهيئة فرص التعاون بين العلماء في مشروعات علمية عالمية، ويكون من جرائها تقدُّم العلم أولًا وتقدُّم فكرة التعاون العلمي ثانيًا، وتقديم شيء من الخير لبني الإنسان الذين استقر مقامهم في تلك الأراضي الجدباء ثالثًا. والهيئة جريًا على خطتها لا تقدم على شيء إلا بعد الاستعداد له، فجمعت لذلك الخبراء في شؤون الصحاري في اجتماعات بأمريكا وفرنسا، وأوفدت من أوفدت منهم للاتصال برجال المعاهد الصحراوية القومية؛ وترتب على هذا كله رسم مشروع لمعهد دولي سوف يقدم للمؤتمر الخامس لليونسكو الذي سيجتمع قريبًا في فلورنسة بإيطاليا. والأمر الأساسي في المشروع هو أن المعهد الدولي لا يقصد من قيامه أن يحل محل المعاهد القومية أو أن يتولى القيام بشيء مما تقوم به، بل القصد منه هو تنسيق العلاقات فيما بينها، فينظم تعاونها ويشد أزر بعضها بالبعض الآخر ويصل ويربط، شأنه في المحيط العالمي شأن المعهد القومي في المحيط المحلي.
وإن القائمين على مجمعكم هذا ليدركون كل الإدراك أن الحياة العلمية على الوجه الذي لا ينبغي لها، لا تزدهر إلا إذا اطلع الرأي العام عليها ووقف على أمرها واهتم بها وأيَّد العلماء فيما يعملون. ولهذا فإنهم أنشأوا المجمع لنشر الثقافة العلمية، واختاروا لاجتماع هذا العام موضوع الصحاري المصرية؛ ليقف المصريون على أسباب الاهتمام الذي كان من ثمراته معهد فؤاد الأول للصحراء والمعهد الدولي للمناطق القاحلة.
والواقع — سيداتي وسادتي — أن الأمر في الصحراء المصرية على حالين: إما إهمال وتنكُّر، وإما تحمس يقوم على غير درس ويهدف إلى تحقيق غايات خيالية أحيانًا وضارة أحيانًا أخرى. والإهمال والتحمس كلاهما يستندان إلى وهم واحد رغم اختلاف مظاهره وتناقض نتائجه، فالإهمال يرجع إلى اعتبار أن الصحراء ليست من هذا الوطن فلا غبار على من ينكرها أو يتنكر لها، والتحمس يرجع هو أيضًا إلى اعتبار أن الصحراء ليست من هذا الوطن، فلتعامل إذن على أساس استغلال المستعمر للمستعمرة، ولتحطم حياة جماعاتها، ولتوجه اقتصادياتها واجتماعياتها لخير المستعمر وحده. وكان حقًّا على المجمع المصري أن يرد الأمور لنِصابها، وأن يقوِّم الاهتمام المعوج، وأن يصل بالرأي العام لإدراك ما ينبغي أن تكون عليه الصحراء المصرية في الحياة المصرية.
هذا وإن خير ما أفتتح به دراسات هذه الدورة أن أعرض عليكم بعض اعتبارات عمومية أرى وجوب تذكُّرها دائمًا عند التفكير في شؤون الصحراء المصرية، أول تلك الاعتبارات نفي الوهم القائل إن تاريخ الصحراء ما هو إلا تاريخ الكفاح بين البدو والحضر، وإنه كفاح قديم مستمر، بدأ بما حدث بين ابني آدم عليه السلام، بين صاحب الحرث (الزارع) وصاحب الضرع (الراعي)، قال الله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآَخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّه رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [سورة المائدة: 27-30] إلى آخر ما جاء في الكتاب الحكيم. وقد غلب على بعض الناس الظن أن ما حدث بين ابني آدم يمثل طبيعة العلاقة بين الزارعين والرعاة، وحقيقةً أن صفحات التاريخ تردد قصص إغارات أهل الصحاري والمراعي من هكسوس وآريين وتتار وعرب على الصين والهند وسهول الروسيا وأقاليم حوض البحر المتوسط وأراضي دجلة والفرات وما ماثلها ترديدًا أخفى بعض الشيء أمرين أساسيين: أولهما تعقب الفلاحين المستمر للرعاة وإجلاؤهم عن مواطنهم قسرًا، أو إرغامهم على ترك البداوة والاستقرار في الأرض، وهو تعقب صامت لا نسمع له في الرواية التاريخية صدى، على عكس الإغارة البدوية التي تقع عنيفة فجائية شأنها شأن العاصفة المكتسحة. أما الأمر الثاني الذي يحتاج إلى توكيد فهو أن الإغارات لا تمثل طبيعة العلاقة بين البادية والحاضرة. خُذ مثلًا الأصل العربي القريب جدًّا لجزء كبير من سكان مصر والشام والعراق، وهو قريب جدًّا من أيامنا ومستمر إلى وقتنا الحاضر، يقع أحيانًا عنيفًا وأحيانًا هادئًا لا تكاد تلحظه. وإذا رجع القارئ إلى كتاب وصف مصر في آخر القرن الثامن عشر، يجد فصولًا ممتعة للجغرافي جومار وغيره من علماء الحملة الفرنسية في وصف القبائل العربية الأصل التي كانت في ذلك العهد قد دخلت في مرحلة الاستقرار في الأرض الزراعية في أقاليم مصر الوسطى ومصر العليا على حافتي الوادي الشرقية والغربية، ولاحظ العلماء الفرنسيون الفروق بين قرى أهلها حديثو العهد بالبداوة وقرى أهلها عريقون في الفلاحة، ولا يزال لهذا كله بقية إلى أيامنا. ألا ترون معي مقدار ما يفيده العالِم الاجتماعي بل والعالِم الاقتصادي المشتغل بشؤون الفلاحة، ومقدرتهم في أمور الفلاحة من دراسة أهل السكان في الريف؟
أنتقل من هذا التوكيد إلى أمر آخر مهم يغفله أهل الدراسات الحديثة، هو أن صحاري العالم القديم — أي آسيا والجزء الواقع في شمال خط الاستواء من أفريقية — مواطن عمران قديم نشأ على أساس الملاءمة بين البيئة وحياة الجماعات الإنسانية، وهو عمران أصيل غير منقول، وهو أيضًا عمران مستقل قائم بنفسه عير متطفل، وهو يستحق الاحترام لما له من مزايا، وهو يستحق البقاء لأنه يقوم على خير الوسائل لاستغلال الصحاري اقتصاديًّا على أحسن وجه ممكن. ولا حاجة بي للإفاضة فيما بلغه ذلك العمران في تربية الماشية والأغنام والجمال مما جعله عنصرًا أساسيًّا في الاقتصاد القومي في الكثير من الممالك الزراعية، كما أنه لا حاجة بي للإفاضة فيما تكوَّن في تلك البوادي من آداب وأخلاق مما جعل أهلها عنصرًا أساسيًّا آخر في الذخيرة الإنسانية لكثير من الممالك الزراعية. ينبغي أيها السادة أن نتذكر تلك الحقائق عندما نتحدث عن المشروعات الكبرى لاستغلال الصحاري، فلا ننسى العمليات المتواضعة الصغرى التي يقوم بها أهل البادية، بل يجب الأخذ بيدهم ومعاونتهم وأن يقدم لهم ما يدل عليه العلم الحديث وما تيسره القوة الاقتصادية وترفع بهم إلى معاش أيسر، مشجعين لهم على الاحتفاظ بفضائلهم، معترفين بأنهم أيضًا لهم نصيبهم ومكانتهم في حياة مصر القومية.
أيها السادة: لقد أعجبني في كتاب قديم لنابليون نظرته الصادقة للصحراء المصرية، هو كتاب أملاه في منفاه في سانت هيلانة، يقص فيه تاريخ حملته على مصر والشام، ونشر الكتاب بعد موته الجنرال برتران رفيقه في المنفى بعنوان: حرب مصر والشام. وقد مهد نابليون لرواية الوقائع بفصول جغرافية ممتعة بدأ بالقول الجامع: «إن مصر مكونة من وادي النيل والصحاري»، وسنرى أنه يعني بذلك كل ما يقول. ثم وصف الصحاري وبيَّن ما بينها من فروق: صحراء مريوط، ووادي النطرون، والواحة البحرية، والواحة الخارجة، والنوبة، وصحراء الرهبان (شرقي بني سويف)، وصحراء السويس. وانتهى من وصفه إلى ذكر ما يعانيه التجار والفلاحون من عبث البدو، وقال إن الحاكم الذي يقدم على مثل أصحاب الجزيرة الذين يحطمون السفن لأن السفن مما يستخدمه القرصان، إن الحاكم الذي يفعل ذلك يفعله وهو غافل عن شأن الصحراء في تجارة مصر وفي اقتصاديات مصر وفي الدفاع عن مصر، ودفعه ذلك إلى أن يرسم مشروع تنظيم لشؤون الصحراء لحفظ الأمن بها وضبط دروبها على أساس من عوائد أهلها وأنظمتهم القبلية.
وإني لأدعو الله في ختام هذه الكلمة أن يحقق بالدراسات، التي سيتفضل بإلقائها حضرات العلماء الذين قبلوا المساهمة في هذه الدورة، ما نرجوه لأهل الصحراء من خير عميم.