الناشر:مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر (الكتاب السنوي العشرون الصادر عن المجمع المصري للثقافة العلمية)
تاريخ النشر: 1949
من بين ما اتفق عليه المؤرخون أن أصول الحركة العلمية في مصر ترتبط بحركة الاقتباس عن الحضارة الغربية، وأنها لا تتصل بالحركة العلمية الإسلامية إلا فيما يذهب إليه البعض من سبق الإسلاميين لهذه النظرية العلمية أو لتلك الطريقة في البحث، أو فيما حاوله أو يحاوله بعض العلماء والمترجمين من أبناء العرب لوضع مصطلحات عربية للعلوم مما استدعى النظر في الكُتب العربية القديمة، أو فيما اقتضته المحاولات الدينية والفلسفية من اتهام العلوم الحديثة بتهم المروق أو الابتعاد عن جادة الدين.
وفي هذه المواضع وأمثالها مما لم نذكر حدثت محاولات الربط بين القديم والجديد في حركة العلم، ولكنها لا تنفي ما ذهبنا إليه من نسبة أصول الحركة للنقل عن الغرب، كما أنها لم تؤثر — فيما عدا الموضع المتعلق بوضع المصطلحات في تقدُّم العلوم في مصر — تأثيرًا يُعتد به. وما قيل وما كُتِب عن سبق العرب للكشف العلمي ممتع من حيث التاريخ أو مُرضٍ من حيث شفاء النفس ولكنه لا يقدم ولا يؤخر في مضمار الدرس الواقعي. والأولى بمن يعنون به درس الحركة العلمية الإسلامية حركة تتصل بالحركة العلمية العامة أو فصلًا من فصول كتاب باهر موضوعه بحث الإنسان عن كنز أسرار الكون، وفصوله مصرية قديمة وشرقية قديمة وإغريقية وهندية وصينية وإيرانية وعربية إسلاميةوأوروبية شرقية وغربية. إنهم إن فعلوا ذلك لأعطوا لكل ذي حقٍ حقه ولوصلوا بين فصول الكتاب وصلًا عادلًا، ولتجنبوا الادعاء الذي لا يستند إلى دليل. وأما موضع اتهام العلم والعلماء أو تبرئته أو تبرئتهم فلا شك أيضًا في قلة تأثيرها في الحركة العلمية؛ وإن كنت من الموقنين بأنها أسفرت عن حفز للتفكير وبعث الألوان من النشاط العقلي لهما قيمتهما.
وليس معنى القول بأن أصول الحركة غربية أن أهل مصر قبل القرن التاسع عشر مباشرةً لم يكن من بينهم من اشتغل بالعلوم الرياضية والفلكية والكيماوية؛ فعلى العكس لم يخلُ المجتمع المصري في آخر القرن الثامن عشر من وجود رجال العلم الذين لم يُستغنَ عنهم، ولا يمكن لأي مجتمع أن يبطل فيه تمامًا اشتغال ما بالعلم. وفي مجتمعنا المصري في تلك المرحلة من تاريخه كانت الحاجة قائمة لمن يضبط له الوقت بحساب الشهور والأيام، وإلى من يضبط له موازينه ومكاييله ومقاييسه ودرهمه وديناره، وإلى من يقيم له مساكنه ومساجده وأسوار مدنه وأبراجها، وإلى من يحدد مقادير المساحيق والمعاجين والسوائل في الدواء وهكذا. احتاج المجتمع لمن يقوم بهذا كله وأشباهه ووجدهم ودبَّر وجودهم أو إيجادهم له، تتلمذ كل طبقة على من سبقها في نظام فردي، وفرق كبير بين إثبات هذا وبين وصفه بأنه حركة علمية من نوع ما قام في مصر منذ أوائل القرن التاسع عشر.
ما هو هذا الفرق؟ سؤال كبير لا يتسع المقام للإفاضة فيه ولكن لا مندوحة عن الإجابة عنه، أظهر الفروق أن المجتمع لا يكتفي بأن يزرع ويصنع ويتاجر ويتنقل أفراده من مكان لآخر أو يعيشون أو يتواصلون كما فعل الأسلاف، بل يسعون نحو النمو ونحو الاتساع ونحو التغيير. وبعبارة مجملة أخذ هذا المجتمع ينظم شؤونه على أساس التطبيق العلمي، والأخذ بالتطبيق العلمي يستلزم البحث العلمي والخبراء الذين يرسمون خطط التطبيق، والبحث العلمي والخبراء يستلزمان الإعداد والتعليم ومعاهد البحث وأدواتها، ومن ثم ما نجمعه كله تحت اسم «الحركة العلمية».
وأما والأمر كذلك فقد تعين علينا أن نبحث عن مبدأ عدم اكتفاء المجتمع المصري بما لديه من وسائل، وأخذه بالسير في طريق جديد.
وكانت أول محاولة لوضع أُسس الإنتاج وطرائق الحياة على الأساس الجديد تلك التي هَم بها الجنرال بونابرت بعد أن فتح مصر في سنة 1798م وفكر في استغلالها مستعمرة فرنسية؛ تعوض على فرنسا ما فقدته من ممتلكات في أمريكا الشمالية وفي آسيا في أثناء حروب القرن الثامن عشر وتمكِّنها من إعادة طرق التجارة العالمية إلى البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط ومن تهديد الإنجليز في إمبراطوريتهم في الهند والشرق الأقصى. وقد جعل أساس ذلك كله التطبيق العلمي؛ فأسس المجمع العلمي المصري لينسق أبحاث العلماء والخبراء الفرنسيين وليضع التقارير والمذكرات لإرشاد الحاكم في وضع خطط الاستغلال القائم على أساس. وهذه هي المرحلة الأولى من تاريخ الحركة العلمية، فماذا كان من أمرها؟ يذهب بعض الباحثين إلى أنها ذهبت — كما يقولون — مع الريح ولم تترك أثرًا، ويذهب آخرون إلى وصلها وصلًا ماديًّا بما تلاها من مراحل، والصواب في شأنها في أن تلك المرحلة الأولى خلفت مجموعة جليلة القدر شملت درس «المواليد الثلاثة» في الاصطلاح القديم شمولًا تامًّا: النبات والإنسان والحيوان والأجواء والأرض والماء، وتعرضت للمجتمع في أحواله كلها في الماضي والحاضر، وأن تلك المجموعة بدئ في نشرها في أثناء الاحتلال الفرنسي وتم النشر كله بعد زوال الإمبراطورية الفرنسية بقليل. ولا يُعقل أن هذا الأثر الضخم ذهب مع الريح، أو أن أي ريح — ولو كانت ريح العصبية القوية الجامحة — بمستطيعة محوه. هذا جانب، أما الجانب الآخر فهو أن من أعضاء البعثة العلمية الفرنسية من بقي متصلًا اتصالًا مباشرًا بمصر، نذكر في الشؤون العلمية والتعليمية جومار مثلًا، وفي الشؤون العسكرية وما يتصل بها مارمون وبليار وبوييه، ومنهم من لم يتصل بها فيما بعد مباشرةً ولكنه اتصل بالمصريين من أعضاء البعوث العلمية اتصال الأستاذ بالتلميذ. وأهم من هذا كله أن وصف مصر أصبح جزءًا من الذخيرة العلمية الأوروبية يأخذ منها وينهل منها من يريد من الناهلين والآخذين.
هذا قول الحق في ذلك الموضوع يلزمنا إدراكه وتفهُّمه عند انتقالنا للمرحلة الثانية، وهي المرحلة التأسيسية للحركة العلمية في مصر المقترنة باسم محمد علي الكبير. وقبل أن أدخل في موضوعها أشير إجمالًا إلى فكرة كثيرًا ما خطرت على بالي ألخصها في القول بأن الأمم تختار مناسبات للوقوف موقف المتذكر للماضي المتطلع للمستقبل، وأعتقد أن خير ما تفعل مصر هي أن تحاول مرة أخرى أن تصف نفسها كما وصفها الفرنسيون في سنة 1798م (أي منذ مائة وخمسين سنة، والمئات والخمسينات من أرقام الاحتفالات)، ومثل هذا الوصف من شأنه أن يحبذ تطورات التغيير أو التقدم فنتصورها على حقيقتها بلا مبالغة في تعظيم أو في تحقير، كما أنه من شأنه أن يحدد المسائل والمشكلات. وعناصر الوصف في 1948م في المتناول هي متفرقة في بطون الرسائل والتقارير والمجلات والكُتب، ولا تحتاج منا إلا إلى الجمع والتنسيق والتهذيب.
هذه فكرة عابرة ولكن العلماء مشغولون بما بين أيديهم فلا نحب أن نشغلهم عنه إلا بمقدار، ولهذا سأكون موجزًا في كلامي عن الحركة العلمية في أيام محمد علي وخلفائه حتى يومنا القريب.
إن السر فيما أخذ به محمد علي نفسه من النهوض بمصر نقرؤه فيما انطبع عليه من كره رؤية الخراب حوله، في اعتقاده بأن العزة لا تكون إلا بالقوة، وأن القوة تتركب من قوة الحديد والعلم والمال. وقد قال إن من نعم الله على مصر أن كانت لها هذه الموارد، وأن شكر الله على نعمائه لا يكون إلا باستغلال هذه الموارد على الوجه الذي لا يكون إلا بتطبيق العلم الحديث، وأن إهمالها هو عين الكفر. ويدلك على إيمانه هذا وصفه أهم أعماله العامة بالخيرية.
وإنا لنعرف جميعًا مقدار ما قام به للإنتاج الحديث في الزراعة والصناعة والتجارة، ولا يهمنا من ذكر هذا إلا ما ارتبط بالحركة العلمية ومجمل القول في تاريخها في عهده ما يأتي:
أولًا: تكوُّن المصالح والإدارات الفنية في الحكومة.
ثانيًا: تكوين الخبراء والفنيين اللازمين.
ثالثًا: الاشتغال بالعلم بأوسع معاني الاشتغال.
فأما عن الوجه الأول فيجدر بي أن أشير للإدارات المتعلقة بالأعمال العامة أو العمليات، وبالزراعة وما يتصل بها من تربية الحيوان، وبالصناعة والطب. ولا شأن لنا بتنظيم هذه الإدارات في وحدات إدارية كبرى أو نظارات، فقد اتخذ من ذلك بعض المتحدثين عن الماضي وسيلة للتفكه. والواقع أن محمد علي الكبير كشأن كل عبقري اهتم بالأشخاص أو الرجال أكثر مما اهتم بمنطق التنسيق الإداري أو بجمال أو صناعة. فإن كان أدهم بك مثلًا أو مصطفى مختار بك أكفأ من يصلح لشيء ما أحيل عليه ذلك الشيء، وإن كانت تلك الإحالة تستدعي إشرافه على ديوان المدارس مثلًا مع الإشراف على حظائر غنم المرينو!
أما عن الوجه الثاني فقد عمل على تكوين رجاله الفنيين بإيفاد النابهين من الشباب لأوروبا، واستدعى تكوين الخبراء في مصر إلى وضع نظامه التعليمي الشامل، وقد استعان في تكوينهم بالخبراء الأوروبيين. وتاريخ هذه النخبة من رجالات مصر معروف وأسماؤهم تتكرر على كل لسان فلا داعي لذكر شيء من ذلك. ولكن مما يجب أن أنبه إليه أن تكوين الفنيين للعمل التطبيقي كان جزءًا من مشروع أوسع من ذلك، كان جزءًا من مشروع محمد علي لخلق صفوة من المصريين تكون من المجتمع المصري بمثابة العقل؛ لتعمل بزعامته وتوجيهه وتسير بمصر إلى أعلى ما تمناه لها قلبه الكبير. ولهذا كره التخصص الضيق وأحب الأفق الواسع لنفسه ولرجاله، وهذا أيضًا مما سمح لبعض المتفكهين من الكُتاب بالتندر، فقالوا إنه كثيرًا ما كلف أخصائيًّا في فرع من فروع الكيمياء بعمل يتصل بعلم الفلك مثلًا وهلم جرًّا. والواقع أن هذا لم يحدث على هذا النحو وبهذا الشكل أبدًا، إنما هو تزمت الأخصائي في ذلك الزمان — وهل هو في هذا الزمان أيضًا — وتمسُّكه بأنه لا يجيد إلا كذا فلا يكلف إلا بما يجيد. وذكَّرني هذا بما شاهدته من أحوال بعض خريجي كلية الآداب في وقتٍ من الأوقات فكان منهم من يتمسك بأن شهادته في تاريخ روما أو أثينا فلا يعرف شيئًا عن الإسلام أو عن مصر.
وأما عن الأمر الثالث وهو الاشتغال بالعلم فالكلام فيه ينحصر في ثلاثة أوجه، أولها بدء النظر في العلوم نظرًا حرًّا في جماعات علمية، وأشهر تلك الجماعات الجمعية المصرية بالإسكندرية وهذه يمكن اعتبارها ذيلًا أو تكملة للمجمع العلمي المصري، ولهذه الجمعية منشورات وكانت لها مكتبة. قلت إن نظرها كان حرًّا أي بمعنى أنه كان طليقًا من حاجات الحكومة، ولكنه في نفس الوقت اتجه هو أيضًا اتجاهًا عمليًّا صرفًا. والواقع أن معظم الأعضاء كان ممن يعمل في خدمة الحكومة فغلبت عليه الفكرة العملية، وإن كان هذا لم يمنعه من إجالة النظر في علم من العلوم بشيء من الحرية. وعلى هذا فلم يرتقِ الاشتغال بالعلم لمرتبة البحث العلمي المجرد.
وأما عن الوجه الثاني فهو اتصال الاشتغال بالعلوم بالحركة الفكرية إطلاقًا وبمحاولة إحلالها محلها اللائق بها في حياة المجتمع المصري، والكلام في هذا يقتضي مني أن أذكر جهد الشيخ رفاعة في مواجهة أمر هذه العلوم الجديدة، وفي محاولة جعلها عنصرًا مستقرًا في حياة فكرية هادئة لا تتنافر عناصرها أي تنافر. وقد تجلت محاولته هذه في مظهرين: أحدهما في مدرسة الألسن وهدفها الرسمي أو القانوني هو تخريج المترجمين، ولكنها في ذهن رفاعة تحقق غرضًا أسمى وتقوم برسالة أجل شأنًا؛ هي إعداد المواطن المصري الذي لا يجمع بين القديم والجديد جمعًا آليًّا قد قسم عقله قسمين منعزلين، بل — على العكس — هو الرجل المثقف بثقافة واحدة نهلت من القديم والجديد معًا فلا هي قديمة ولا جديدة. والمظهر الثاني في رسائله وبخاصة «مناهج الألباب» وقد فلسف فيها إصلاح محمد علي وصبَّه في قالب نظري. ولم يَقُم في مصر من حاول محاولة رفاعة حتى الآن! وإني أوقر أن رفاعة حقق رسالته بالنسبة لعصر محمد علي تحقيقًا تامًّا، فاطمأن الناس للعلم الجديد اطمئنانًا تامًّا كما سار العلماء في سبيلهم. ومما عاونه على نجاحه هذا أمران: الأول حدث إذ ذاك من كون التأليف والتعليم باللغة العربية فقلَّت الغرابة وزالت الوحشة، واقتضى ذلك من المؤلفين والمترجمين جهدًا يستحق التنويه والثناء؛ فقد رجعوا للكُتب القديمة وبذلوا ما بذلوا في سبيل وضع المصطلحات. ولا يفوتني هنا أن أذكر اسم السيد عمر التونسي مصحح الكُتب الطبية العربية فقد أشار لما قام به هو وغيره في هذا السبيل. والثاني أن الاشتغال بالعلم لم يتعدَّ نطاق العلوم التطبيقية وهذه بطبيعتها واضحة المعالم، محدودة الخطوط، تستطيع أن تعمل في نطاقها دون أن تثير في نفسك أو في غيرك المسائل الكبرى. ويتصل أخيرًا بحركة الاشتغال بالعلم موضوع النشر وأداته المطبعة، وهذه أنشأها العزيز في بولاق وفي مؤسسات تعليمية أخرى؛ وقد أخرجت تلك المطابع وبخاصة مطبعة بولاق والدوريات في مختلف العلوم والآداب والفنون.
فكانت النهضة إذن على هذا شاملة، ولا تتغير ملامحها في عهد خلفائه عباس وسعيد وإسماعيل تغييرًا رئيسيًّا، اللهم إلا في أمر الانكماش في عهد عباس وسعيد والامتداد في عهد إسماعيل. ولا حاجة بي إلا إلى الإشارة لعودة المجمع العلمي المصري للحياة في عهد سعيد، ولتأسيس الجمعية الجغرافية في عهد إسماعيل، ولاتساع حركة التعليم والنشر في عهد إسماعيل؛ ولكن — كما قلت — لا تتغير الأوضاع الجوهرية تغيرًا يُذكر. أما من حيث التفكير الفلسفي في أمر العلوم الجديدة فشأنه أقل مما كان في العهد السابق فلم يُقِم رفاعة جديد، ولا يبلغ علي مبارك مبلغه من حيث التمكن والنمق والتعبير، وكُتبه كُتب جمع ويدخل في جمعها عنصر التسخير ولحدٍّ ما استغل الوظيفة! وقصة «علم الدين» التي تحدَّث فيها عن الحضارة الغربية وآثارها في نفس رجل شرقي فاترة مملة، وهي في هذا أقل من رحلة رفاعة في فرنسا وأقل مما كتبه فارس الشدياق في الساق على الساق أو في كشف المخبا.
وفي أواخر عهد إسماعيل بدأ وصول الفكرة الداروينية وفلسفة هربرت إسبنسر، وابتدأ ظهور المقتطف وتاريخه في تقريب العلوم مشهور موصول.
ثم دخلت مصر تحت السيطرة الأجنبية، وسأحدد آثارها في الحركة العلمية تحديدًا دقيقًا، والواقع أن العهد كله في حد ذاته عهد تحديد وتضييق وتقييد في الإنتاج الاقتصادي وفي الإنتاج الفكري. ولا يؤْثر عنه إلا حُسن تنظيم مصالح فنية معينة: الري والطبيعيات والمساحة والإحصاء، أما من حيث تكوين العلماء الحقيقيين فيمنع ذلك ولا يهمه إلا تكوين المرؤوسين من الفنيين. وعلى هذا فللكلام على الحركة العلمية بمعناها الحقيقي ينبغي لنا أن نترك الحكومة ومعاهدها التعليمية جانبًا للنطاق القومي الحر. ولما كان النشاط العلمي لا بد له من البذل، ولما كانت الجهود السياسية التحريرية تجتذب العناصر الحية بين الشيوخ والشبان؛ فإن الحركة العلمية القوية لم ترتفع لمستوى خليق بمصر وخليق بما بلغته في الغرب في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وخسارة مصر في المدة ما بين 1882 و1922م من هذه الناحية خسارة كبيرة حقًّا ولا ينير هذه الفترة إلا عزم مصر على الحياة.
نصل أخيرًا لزماننا، وللحركة العلمية فيه مقدمات أو أُسس، أما الأسس فقد وضعها نخبة من المصريين وقد ظفرت في نواحي التوجيه والتنظيم برعاية الأمير أحمد فؤاد طيب الله ثراه ورعايته للعلوم والفنون، سواء أكان ذلك بوضع الخطط والمناهج، أو بالإدارة العليا الرشيدة البعيدة الأهداف والأعماق، أو بالنفوذ الشخصي في مصر وأوروبا تنتظر بعد التاريخ الجدير بجلالها وخطرها. ومن أجل فصوله إنشاء الجامعة المصرية ونموها نحو مركزها الحالي العظيم؛ وقد تحقق بذلك لأول مرة في تاريخ الحركة العلمية في مصر وضع العلوم من حيث التعليم وتكوين العلماء وإيجاد أدوات البحث العلمي موضعها المعروف في البلاد الغريبة، كما أن من فصوله إنشاء المعاهد والجمعيات العلمية الكبرى كجمعية الاقتصاد والتشريع والحشرات ومعهد الصحراء وما إلى ذلك كله مما هو قائم بين ظهرانينا.
أما الكلام عن مبلغ تقدُّم البحث، وعن مبلغ استخدام العلم في تنظيم شؤون المجتمع المصري، وعن مبلغ أثر هذا كله في الحياة الفكرية في المجتمع المصري؛ فهذه أسئلة أدعها للذين يحسنونها من حضرات الزملاء أعضاء هذا المجمع الذين شرفوني بالدعوة للتحدث إليهم في موضوع تاريخي بحت.