الكاتب: محمد شفيق غربال
الناشر: مطبعة دار الكتب المصرية، الجامعة الشعبية: الموسم الثقافي الأول
تاريخ النشر: 1947
المناسبة: أُلقيت هذه المحاضرة بقاعة الجمعية الجغرافية الملكية في 17 مارس 1946.
حُدِّد لي أن أحاضركم في أهم الأحداث في تاريخ مصر الحديث وأثرها في مركز مصر الحاضر. ولعلهم قد أرادوا بهذا التحديد أن أضع في أيديكم — إن أذنتم بذلك — مفتاحًا تاريخيًّا تلجون به أبواب مصر الحاضرة، إلى ثقافتها وأدبها وعلمها وزراعتها وصناعتها ومشكلاتها الصحية والاجتماعية ومركزها بين الأمم. ويكون حديثي — على هذا الوجه — تمهيدًا تاريخيًّا للأحاديث التي تجيء من بعده.
إن صح هذا فعليَّ أن أقول إن «الأحداث» الوارد ذكرها في رأس هذا الموضوع تبقى خامدة مجهولة التأثير إلى أن ننسبها أو نضيفها إلى فكرة ما أو إلى مبدأ ما في ذهننا، وهذا المبدأ يكون في هذه الحالة بمثابة السلك تسلك فيه «الأحداث» فيدب فيها النشاط وتكتسب معنى من المعاني. ومثل الأحداث في هذا مثل الحروف إلى أن ينظمها الكاتب، أو الألوان إلى أن يستخدمها المصوِّر. ونظم الكاتب للحروف واستخدام المصوِّر للألوان لا يتوقفان على الحروف وعلى الألوان إلا لحد، إنما أغلب توقفهما يكون على مشيئة الكاتب أو المصوِّر، على حالة عقلية أو عاطفية لهما هما. أما المعنى النهائي للكتابة أو للصورة فأمر يتكوَّن من الكاتب والمصوِّر، ومن فعل القارئ للكتابة أو الناظر للصورة.
والمؤرخون بالنسبة للأحداث التاريخية يجمعون في أنفسهم صفتي الصانع والمشاهد المتأمل. يصنعون التاريخ — وأرجو ألا تحمل هذه الكلمة الناس على أن يظنوا فيهم الظنون — ثم يتخيلونه شيئًا منفصلًا عنهم يتأملونه ويستخرجون منه ما يريدون من شتى المنافع.
وعلى هذا فإني أقرر:
أولًا: أن الأحداث — على هذا الوجه — دائمًا في حدوث، تحدث كلما اتخذت منها مادة لصنع تاريخ، ومن ثم قول القائل: كل الأحداث أحداث حاضرة.
ثانيًا: إن صنع التاريخ شيء آخر غير تزييفه، وإن خلقه غير اختلاقه، وموضوع الأمانة أو الخيانة له أحكام لا نتحدث فيها الآن.
ثالثًا: إن صنع التاريخ نتاج الحاضر، ولا أذهب بعيدًا في شرح هذا، فها أنتم تتوقعون مني أن أصنع لكم تاريخًا تتخذون منه وسيلة لفهم ثقافة مصر في الوقت الحاضر وأدبها إلى آخر موضوعات هذه السلسلة. وأنا — من ناحيتي — سأحاول بقدر استطاعتي أن أقدم لكم تلك الوسيلة، ولكن هذه الوسيلة من صنعي أنا، يحدها مبلغ قدرتي وتتأثر بعقائدي وعواطفي أو أهوائي. وعلى هذا يصح أن نقول إن عمل المؤرخ ما هو إلا منهج من مناهج دراسة المسائل الحاضرة.
إن كان الأمر بينكم وبيني على الوجه الذي بينته، فإن الأمانة تقتضي أن أبين لكم أني سأنظم الأحداث في ترتيب ينتهي إلى جلاء طبيعة المشكلات والمراكز الحاضرة، وعلة بقائها مشكلات تبدو مستعصية الحل يُحاضِر فيها المحاضرون ويُستقدَم لها الخبراء وتُعقَد لها اللجان البرلمانية وغير البرلمانية بل وتُرصَد لها الأموال في الميزانيات ثم تبقى في الغالب حيث كانت.
حاضرنا في مصر حاضر مجتمع يتحكم فيه الاضطراب الناشئ عن أن العالم تتنازعه قوى متضادة، فمنها ما يدفع الأمم نحو اتخاذ التنظيم القومي وتأكيد المقومات القومية، ومنها ما يدفع نحو وصل الأمم بصلات شتى تستمد قوتها من أخوة أو صداقة أو منفعة، ومنها ما يدفع نحو التنظيم العالمي المطلق. ومصدر الاضطراب أن الوسيلة الوحيدة الفعالة في بناء المجتمعات الإنسانية التي شهدها العالم هي التغلب، خفيًّا كان أو ظاهرًا، ماديًّا كان أو معنويًّا، فالتغلب هو الذي أقام من الأسرات قبائل، ومن القبائل أممًا، ومن الأمم دولًا عامة. والجديد في الأمر أن نطاق التغلب قد أصبح بفضل ما وصل إليه تطبيق العلم نطاقًا عالميًّا، وأن «الحرب» وهي أداة التغلب منذ فجر التاريخ قد نجحت الآن في تعجيز الحرب. ولكن الإيمان بعجز الحرب عن تحقيق أهدافها يصحبه إيمان بلزوم الاستعداد لها. وقد ترتب على ذلك نوع من التسليم بوجوب تقسيم السيطرة على أمم هذا العالم بين ثلاث مجموعات كبرى من الدول. والوضع معتل مختل، ولكن الوضع الذي لا يستطيع مجتمعنا المصري إلا أن يواجهه فبقاؤه أو فناؤه متصل به، ولا يستطيع مجتمعنا المصري تدبير أخص شؤونه منفصلة عن مكانه في الأوضاع العالمية.
ومكاننا بالنسبة إلى تلك الأوضاع العالمية مكان أمة تنتمي إلى الجامعة العربية وموطنها وموطن أخواتها يكون مركزًا عظيم الخطورة.
هذه الحقائق الثلاث: مصر أمة، مصر والعرب، المركز الجغرافي. هي حقائق تاريخية قديمة، ولكنها مرت في أطوار يتسلمها مؤرخ العصر الحديث عند نهاية القرن الثامن عشر. وكان قد انقضى عند نهاية ذلك القرن على دخول المصريين وسائر العرب في حكم السلطنة العثمانية ما يقرب من ثلاثمائة سنة، خرجوا في أثنائها من دور المساهمة والمشاركة في الحركات العالمية الثقافية والاقتصادية؛ وتعرَّضوا عند نهايتها في أواخر القرن الثامن عشر لدور الأمم التي تترقب من يوم لآخر نزول المستعمر أو المستغل. ولم تحاول الدولة العثمانية، فيما نعلم، أن تنتفع من سيطرتها على أقصر الطرق بين أوروبا والشرق الأقصى لتعيد الحركة التجارية الكبرى لما كانت عليه قبل القرن السادس عشر. ولم يحاول السلاطين، فيما نعلم، أن ينظموا العلاقات فيما بين رعاياهم العديدين وفيما بينهم وبين دولتهم على غير ما قامت عليه الدولة في أول أمرها من قواعد. فأوصدوا الأبواب دون كل فكرة سياسية أو اجتماعية جديدة، وضاعت على الجميع الإفادة بما كان لهذا المُلك العثماني الشامخ من موقع جغرافي فريد في نوعه، وبما كان له من ميزة الاشتمال على أمم لها قدم راسخة في تقدُّم الإنسانية. وإذا بحثنا عن سر رضا العثمانيين عن أنفسهم واطمئنانهم إلى ما هم عليه، فإنا قد نجده في نجاحهم الباهر في إنشاء أداة قوية للحرب وللحكم، استطاعوا بها أن ينشئوا ملكًا عريضًا وأن يحافظوا عليه قرونًا عديدة، وأن يقودوا — كما يقود الراعي قطيعه — أممًا وأقوامًا وقبائل من سلالات بشرية مختلفة، وعلى أديان ومذاهب متعادية، وعلى درجات متفاوتة من الحضارة نحو الطاعة والانقياد.
وبقيت مصر ومركزها الجغرافي على هذه الحالة من الركود حتى نهاية القرن الثامن عشر، إلى أن أطلق الجنرال بونابرت هذا المركز من قيوده السلطانية وأعاد له تأثيراته المختلفة ومكَّنه من إظهار ما انطوى عليه من قوى عظيمة. وكان الأصل في نزول ذلك الجنرال وجيشه بمصر في سنة 1798م، أن بونابرت لما رأى الحرب بين فرنسا أو الثورة الفرنسية وأعدائها لم تصل لنتيجة حاسمة في الميادين التي اعتادت الدول الأوروبية أن تلتقي فيها جيوشها: «بلجيكا وإيطاليا وأراضي الرين»، عوَّل على توسيع ميدان القتال ليشمل القسم الشرقي من البحر المتوسط وجزائره وسواحله في البلقان وسوريا ومصر، على أن يحاول الوصول لمناطق الاستعمار الأوروبي القديم في المحيط الهندي والأقطار الهندية الشرقية؛ لعله بذلك — وقد أُفسح أمامه المجال — يستطيع أن يضرب خصومه الإنجليز ضربات حاسمة، كما يتمكن بسيطرته على العالم العثماني أن يهدد أو يستميل الإمبراطوريتين الشرقيتين «الروسيا والنمسا» إلى التسليم لفرنسا بمركز السيادة في أوروبا. والمشروع — كما ترون — شبيه كل الشبه في صميمه بالخطط الإستراتيجية التي عمدت إليها ألمانيا من جهة، وإنجلترا وحليفاتها من جهة أخرى، لتوسع دائرة القتال بحثًا عن مكان تسدد فيه الضربة القاضية.
وقد أثار بونابرت الصيد ولكنه لم يقتنصه، فقد استطاعت القوة البحرية الإنجليزية أن تحول دون ما أراد، وردَّته للميدان الأوروبي — وتلمَّس هو فيه مخارج — في إسبانيا والبرتغال ونحو بحر البلطيق والبحر الأسود وأخيرًا في الروسيا؛ ورُدَّ منها جميعًا إلى عُقر داره، ثم كانت النهاية.
أطلق بونابرت مركز مصر الجغرافي من عقاله وإن لم ينتفع بهذا الإطلاق، وحاول أن يمهد للاستعمار الفرنسي في مصر بالقضاء على العصابات الحربية بها وإن لم ينتفع بهذا التمهيد. وشاء القدر أن يخرج محمد علي من موطنه الأول في قولة إلى ميدان خليق بالأبطال، إلى مصر، وأن يدخلها في ساعة خليقة بالبطولة.
وكان المجتمع المصري الذي ولي محمد علي أمره في سنة 1805م يتركب من طوائف وجماعات لها شخصيتها وأنظمتها وقانونها وعُرفها، فمن أصحاب السيوف لأصحاب الأقلام، ومن أهل الفلاحة لأصحاب الحرف، ومن أرباب السجاجيد لهيئات التدريس، وهلم جرًّا. ويكتسب ذلك الاجتماع الصاخب حيويته من حكم الجماعات لنفسها، وكانت آفته ما صحبه من سرف وتبديد وتشتت السلطان وبعثرته وانعدام التوحيد الأعلى المنسق للجهود، وما كان من عجز الحاكم الأعلى عن منع نمو العصبيات المسلحة ودرء أذاها عن الطوائف المنتجة من أهل الفلاحة والصناعة والتجارة.
وقد أدرك محمد علي منذ اللحظة الأولى أنه لم يتولَّ أمر باشوية عثمانية عادية، بل إنه جلس على عرش مملكة عظيمة يشهد كل ما يراه حوله بما كان لملوكها وسلاطينها، وأن عناية الله قد سلمته إحياء أمة واحدة يدر نيلها الفيض العميم. كما أدرك بالفكر الثاقب الذي وهبه الله أن لا بد لذلك الإحياء من انتهاج مناهج جديدة، وأن طرق الباشوات والبكوات في جمع المال وبعثرته وتوطيدهم أقدامهم بصلم الآذان وخزم الأنوف وقطع الرؤوس لم تؤدِّ إلَّا إلى الخراب؛ فهدته مواهبه لسياسة من نوع آخر يحقق بها رجاء الناس فيه فيصون أرواحهم وأعراضهم وأموالهم ويرتقي بهم درجات إلى ما لم يكونوا يعهدون. وقد أدرك أيضًا منذ أيامه الأولى أن بونابرت قد فتح الأعين نحو مصر وغيرها من الأقطار العثمانية. ألم يسبق توليته نزول الفرنسيين بمصر؟ ألم يصعب على السلطان إجلاؤهم عنها؟ بل إنه لم يستطعه إلا بفضل معاونة أوروبيين آخرين. ألم تتداعَ القوة الإسلامية في الهند نحو الانهيار النهائي؟ ألم يحس كل عثماني بضغط الدول الأوروبية على السلطنة العثمانية ضغطًا مستمرًّا، وتوغل الروسيين في اتجاه إيران والإمارات الإسلامية الآسيوية؟ فالأمر لا يحتمل التأجيل، وإعزاز مصر يتطلب العمل السريع والإصلاح الشامل والقوة التي تصون الكرامة: قوة الحديد والمال والعلم.
وشاء الله أن يكون أول اختباراته للساسة الكبرى في طور خاص من أطوار التاريخ الأوروبي: طور الثورة الفرنسية والثورة الصناعية الكبرى، فبهرته الحركة وصادف ذلك هوى في نفس متوثبة طموح، ولازمته «الحركة» حتى النفس الأخير.
ابتدأ بالأساس، فقرر أن الأمة الواحدة يجب أن تتولى أمورها سلطة عامة واحدة، وأن تجزئة السلطان وتشتيته قد أديا إلى انعدام فكرة الحكومة انعدامًا يكاد أن يكون تامًّا؛ فتكونت العصابات المسلحة وأُهمِل أمر المرافق العامة إهمالًا تامًّا، ونتج نوع من التفكير يعتبر أن الحكومة ما هي إلا مشاركة ومقاسمة في «الأرزاق». أقام بدلًا من تلك المخلفات العتيقة فكرة الدولة الجديدة تتكفل لرعاياها بما تتكفل به الدولة في الأزمنة الحديثة، شعارها السماحة لا لأنها تجردت من الصفة الدينية أو قصرت دائرة عملها على حد المصالح الدنيوية، بل كان ذلك لاعتبارها أن الحياة الاجتماعية في العصر الحديث قد تطورت التطور الذي يسمح بقبول فكرة التعاون لتحقيق أغراض سياسية واجتماعية بين رعايا يختلفون دينًا. أما أدوات الحكم فالإدارات الحكومية الكبرى والصغرى المعروفة، وأما قانون الأساسي فدستور غير مكتوب يتركب من مبادئ قديمة ومبادئ جديدة ويستمد وحدته من إرادة محمد علي؛ وهذه الإرادة تسوي في العمال كبيرهم وصغيرهم على يد «الصفوة» من الرجال التي عمل على خلقها وإحكام أمرها طول أيامه.
وكانت تلك الصفوة هي الأرستقراطية المتكلمة بالتركية، كوَّنها محمد علي من شتى العناصر، فمن رجالها من جمعهم أحداثًا من المماليك والأحرار من أبناء مصر وأقاليمها السودانية والأقطار العثمانية أو من سبي المورة أو اللاجئين منها، كفلهم محمد علي منذ نعومة أظافرهم ورباهم وعلَّمهم في مدارسه في مصر وأوفد منهم في بعوثه لأوروبا، وقلدهم مناصب الدولة وأنعم عليهم بالمال والأرض وشرَّفهم ورفع قدرهم بين الناس، فهو «ولي النعم». ولكنه وضع علاقته بهم لا على أساس السيد والمسود بل على أساس علاقة الأب بأبنائه، فلم يكن محمد علي في علاقاته برجاله الحاكم المطلق، بل كان الأب الخيِّر الحازم يسعى لأن يجعل منهم رجالًا يفهمون مقاصده ويعينونه على تحقيق آماله. وهذه أوامره الحكومية قل أن تجد لها شبيهًا في أوامر الحكومات، فكانت هذه الأوامر في جمعها النصح والترغيب والترهيب وضرب الأمثال والإشارة إلى أن منفعة الرعية أو مجد الوطن متوقف على ما نيط بالعامل أداؤه صورة صادقة لتلك الشخصية العظيمة. وهذه أيضًا طريقته الإدارية، جعل لكل شأن من الشؤون العامة ديوانًا، وكان لا يتخذ قرارًا في مسألة ما إلا بعد أن يستمع لآراء أهل المجلس المختص بها. وذلك لأنه لم يكن حاكمًا فحسب، بل كان طوال مدته مربيًا ومكونًا للرجال، ولم تكن مجالس الإدارة في نظره هيئات إدارية فحسب، بل كان لها غرض آخر هو تكوين الرجال وتشجيعهم على التفكير المستقل.
وكان تولي الحكومة أمر التعليم الوسيلة الأولى في تكوين الصفوة الإدارية الفنية العسكرية. كان أول تفكيره في تنظيمه عندما ابتكر أحد أهالي رشيد ابتكارًا صناعيًّا أعجبه، قال عند ذلك: «إن في أولاد مصر نجابة وقابلية للمعارف». فأمر ببناء مكتب ورتَّب فيه جملة من أولاد البلد ومماليكه وجعل عليهم مدرسًا يقرر لهم قواعد الحساب؛ فكأنه عز عليه أن يرى الذكاء المصري يضيع هباء، كما عز عليه أن يرى الموارد المصرية يبددها الجهل والفوضى.
ولم يكن العلم غريبًا عن مصر، فقد كان طلبه فريضة على المسلمين، ولكن لا شك في أن علماء ذلك الزمان ضيقوا على أنفسهم دائرة المعرفة مما دعا بعض الباحثين الأوروبيين في ذلك الزمان إلى الاعتقاد بأن أول واجب على الحاكم المصلح في البلاد الشرقية أن يهدم البناء القديم فلا خير فيه لأهله، ثم ينشئ بعد ذلك معاهد جديدة تُعلَّم فيها العلوم الأوروبية باللغات الأوروبية. هذا تحديد المسألة كما واجهها الإنجليز في الهند إذ ذاك، فكيف واجهها محمد علي؟ علَّم العلوم الحديثة ولكنه علَّمها باللغة العربية واحتفظ بمعاهد التعليم القومي المنتشرة في قرى مصر وحواضرها وأوجد بينها وبين معاهده الجديدة وبعوثه الخارجية صلات؛ فتجنب بذلك الثنائية التي لم تنمُ إلا في أيام الجيلين الحاضر والسابق من المصريين وبرضى أبناء الجيلين الحاضر والسابق تمامًا. ولم تعرف أيام محمد علي «الشهادة» مفتاحًا وحيدًا لولوج معهد ما، كما أنها لم تعرف إلا ثقافة عربية إسلامية في كل مكان يضاف إليها إعداد فني في بعض الأمكنة. وأثبت محمد علي أمرًا سياسيًّا آخر: وهو أن التربية والتعليم شأن عام تتكفل به الدولة مهما كلفها، وأن زمان ترك هذا الشأن للأفراد أو للطوائف تقوم به أو تهمله قد انقضى، ولكنه ترك للأفراد وللطوائف قدرًا عظيمًا من الحرية هو من أثمن ما خلفه في سياسته التعليمية.
تلكم خطته في إنقاذ العقول، فما خطته في إنقاذ الموارد؟ كره الإسراف والتبديد والإهمال كرهًا بلغ منه أن اعتبرها بمثابة الكفران بنعمة الله، قال في أحد منشوراته: «إن نيلنا لوطن عديم النظير كهذا هو من النعم الجسيمة، وعدم القيام بالسعي والاجتهاد في عمارته يكون عين الكفران بالنعمة وهذا ما لا تقبله شيم جبلتي وتأبى نفسي أن أكون شريكًا لكم في ذلك». ولعلكم قد لاحظتم إطلاق الوصف «الخيري» أو «الخيرية» على الكثير من منشآته، فقد رام بها الخير بمعنى أوسع مما جرى به الاستعمال.
نمى الموارد إذن لأنه لا يستطيع أن يحتمل رؤية الخراب أو الصائر إلى الخراب، ولأنه يريد أن يُعلِّم وأن ينشئ جيوشًا وأساطيل ليحيي عالمًا راكدًا ويوقظ أممًا من سبات الدهور، وكان لا يطلب شيئًا لنفسه فذوقه ذوق البساطة الأنيقة، بل طلب المال للعمران.
وكانت شؤون الزراعة وما يتصل بها لها مقام خاص في الاقتصاد الإسلامي في بعض الممالك الإسلامية كمصر والعراق والهند. فعلى الزراعة يتوقف قوت الرعية، والأموال التي تجبى منها تُربط عليها أرزاق الأجناد سواء أكانوا أحرارًا كما في صدر الإسلام أو عبيدًا أو في حكم العبيد كما كان الحال فيما بعد. فاكتسبت الزراعة وأرض الزراعة وأهل الزراعة وضعًا خاصًّا جامدًا أخرج الزراعة والأرض من نطاق التجارب والتبادل الحر، وأخرج أهلها من نطاق التمتع بالأهلية الكاملة وأدخلهم في نطاق الأدوات البشرية. وعلى ذلك قصرت الزراعة بصفة أساسية على إنتاج ما يلزم لغذاء الأهلين وملبسهم، وامتنع التفكير فيما عدا ذلك (كالإنتاج الزراعي للتصدير للخارج مثلًا) حذر نقصان الضروريات، وامتنع التداول الحر في الأرضين حذر تأثر أرزاق الأجناد، وخضع الفلاحون لنظام مقيد لحريتهم، معطل لشخصيتهم خضوع الجندي للقانون العسكري.
وقد حطم محمد علي هذا النظام، وسهل عليه هذا؛ ذلك لأن القوة العسكرية التي جمد من أجلها النظام كانت قد تلاشت قبل عهده، فتطرق الاختلال على النظام الزراعي كله. فاضطرب أمر الضرائب ووضع كل من يستطيع يده على الأرض أو الحقوق الأميرية، وخرجت أراضٍ واسعة المساحة من نطاق الضرائب فأصبحت رزقًا أحباسية. ففحص وحقق ثم ألغى التزام الأموال، واتصل مباشرةً بالفلاحين فثبتهم فيما كان في أيديهم وزادهم على توالي الزمن حقوقًا، كما تصرَّف في مساحات واسعة بالإنعام على رجال أرستقراطيته وأفراد بيته بشروط أهمها الإصلاح والاستغلال. ولكنه احتفظ بالسيطرة التامة على الزراعة، فهي لا تزال — كما كانت قديمًا — مصدر القوت وهي مصدر أهم موارده المالية، ثم أصبحت في عهده أهم مصدر لتغذية التجارة الخارجية، ثم إن الاستمرار في سياسة الإصلاح والتنمية يقتضي أيضًا بقاء الهيمنة في يده ولو إلى حين.
وقد قام في سبيل تنمية الثروة الزراعية بصيانة منشآت الري والصرف وتجديدها، ولم يكتفِ بهذا بل أحدث الانقلاب الكبير المعروف في نظام الري المصري (نظام الري الدائم بضبط النيل).
وكان في تدبير محمد علي أن يضيف الإنتاج الصناعي للإنتاج الزراعي لتنمية مادة التجارة الخارجية. وقد اعترض المعترضون على سياسته الصناعية، وبينوا له انعدام ما سموه أساسها الطبيعي، وبينوا له أنه يستطيع أن يستورد من أوروبا ما هو أرخص وأكثر إتقانًا، وكشفوا له العيوب الخطيرة في إدارة المصانع. والواقع أن كل هذا كان واضحًا له وضوحه للمعترضين. ولم يكن الرد على ذلك عسيرًا، فهناك امتيازات تتعلق بسلامة الوطن يهون بجانبها حساب الربح والخسارة، وهناك مصلحة قومية في تنويع الإنتاج وفي تكوين الصناع الماهرين.
والصناعة الكبرى لم تخفق في مصر، بفضلها تمكَّن محمد علي من كسوة جيشه وتسليحه ومن بناء أسطول ضخم في الإسكندرية. إن الذي حدث كان عدول محمد علي عن الاستمرار في منشآته الكبرى بعد إنقاص جيشه ومحو أسطوله؛ ولكن الصناعة الكبرى ظلت على شيء من الحياة، والجذوة التي أشعلها محمد علي لم تخمد بل ظلت في انتظار من يشعلها من جديد.
وصف محمد علي مصر بالنسبة للتجارة فقال: إنه بالنسبة لموقعها الجغرافي هي إقليم ومرسى لأهالي البلاد المسكونة البالغ نفوسها 6 مليون تقريبًا. وقد فهم التجارة الخارجية على وجهها الصحيح؛ أي على وجوب قيامها على تبادل المنافع. وتولاها بنفسه، وكان لا بد من ذلك في زمن انعدمت فيه أدوات المعاملات التجارية الكبرى، فأين المصارف التي تمول التاجر، بل أين الأموال اللازمة لهذا التمويل؟ وأين أدوات تحديد الأسعار متصلة بمثيلاتها في الأقطار الأخرى؟ وكان لا بد له من ذلك ليحمي المنتجين من رعاياه من الاستغلال الأجنبي، فإن محمد علي كان قد قَبِل فكرة «مخالطة» الأجانب بصفة أساسية لكل مشروعاته.
هذه «المخالطة» شرط أساسي للنقل من الغير، وقد عدها الشيخ رفاعة من أكبر ما أقدم عليه محمد علي، قال: «فلو لم يكن له من المحاسن إلا تجديد المخالطات المصرية مع الدول الأجنبية بعد أن ضعفت الأمة المصرية بانقطاعها المدد المديدة والسنين العديدة لكفاه ذلك؛ فقد أذهب عنها داء الوحشة والانفراد وآنسها بوصال أبناء الممالك الأخرى لنشر المنافع العمومية واكتساب السبل في ميدان التقدمية».
وقد أكسبت هذه المخالطة الجاليات الأجنبية وصفًا جديدًا ورثته مصر فيما ورثت عن عصر محمد علي.
وذلك أن الأوروبيين الذين سكنوا مصر قبل عهده كانوا يفعلون ذلك لأغراض محدودة وفي ظل أنظمة معينة، فكانت المهمة الأصلية لبيوتهم التجارية الوكالة عن الشركات والهيئات الأوروبية المحتكرة للتجارة مع الأقطار الشرقية. وقد خضع الأوروبيون المقيمون بمصر لمجموعتين من النظم: أما المجموعة الأولى فتشمل اللوائح المختلفة التي أصدرتها شركات الاحتكار لتنظيم شؤون المعيشة والعمل لمن رخصت لهم من مواطنيها بسكنى مصر. وقد عُهد إلى القناصل — وكانوا لسنوات عديدة من حكم محمد علي تجارًا تعيِّنهم تلك الشركات — تنفيذ تلك اللوائح. أما المجموعة الثانية فكانت تتكون من منطوق العهود الصادرة من السلطنة العثمانية، المتخذة شكل معاهدات بين حكومة الدولة والدول الأوروبية ومما طرأ عليها فعلًا في اتجاهي التنفيذ أو التعطيل الكلي أو الجزئي، وتشمل الامتيازات التي منحها السلطان لرعايا تلك الدول عندما ينزلون بلاده ويتاجرون مع رعاياه. وقد أصاب المجموعتين في أيام محمد علي تعديل جوهري، فالمجموعة الأولى هدمتها الثورة الفرنسية والثورة الصناعية، أما المجموعة الثانية فصارت تطبق في ظروف تختلف تمامًا عن ظروفها الأصلية؛ فإنها وُضعت لعصر لم يعرف هجرة الأجانب ولا استيطانهم الدائم ولا انتشارهم في الريف والحواضر ولا قدوم المهندس والطبيب والصحفي والمعلم واللاجئ السياسي وصاحب المصنع أو المصرف. وقد أدرك محمد علي قدومهم واعتقد أن سطوته الشخصية تغني عن وضع اتفاقات دولية تراعى فيها الظروف الجديدة، كما أن نظام الاحتكار الذي اتبعه في التجارة الخارجية حمى الشعب من نتائج سوء استعمال الامتيازات.
وذلك أن الرجل كان لا يهاب الأخذ والعطاء، ولا يخشى نمو العلاقات وتوكيدها (فعل الضعفاء) مادام بيده ما يحافظ به على الشرف: قوة الحديد: قوة الجيش والأسطول.
وكانت القوة في نظره وسيلة العيش الكريم، وقد حل مشكلة تكوين الجيش على الوجه الذي أوجدت الديموقراطية الحديثة وليدة الثورة الفرنسية؛ أي التجنيد العام، وسوَّى بذلك أمرًا استعصى على الحكومة الإسلامية. اهتدى محمد علي لاقتباس الحل الحديث فجند الفلاحين واستخدم للتدريب ضباطًا أوروبيين وأنشأ معاهد الدراسات العسكرية؛ وبذلك أضاف محمد علي عبء الجندية إلى الأعباء الأخرى التي حملها الفلاح، ولكننا لا نستطيع أن نقول إن جيلنا الحاضر قد جعلها بعد خدمة قومية عامة.
وقد حمل جيل محمد علي من الفلاحين المصريين أيضًا أعباء تنفيذ مشروعه الخطير لإحياء العالم العثماني: رسمه محمد علي منذ الأيام الأولى وسار في تنفيذه بخطى ثابتة متئدة.
ولقد مرت علاقات محمد علي بحكومة السلطنة في أدوار مختلفة، ولكن يهمنا أن نقول إن تباين أدوارها لا يضعف شيئًا مما ذهبنا إليه من سعيه المتواصل لأن يحي بيديه القوة العثمانية.
وللمصري أن يسأل: وما قيمة مصر في مشروعه؟ والجواب على ذلك أن قيمتها عظيمة عِظم المشروع كله؛ رفض أن يتخذ منها عالمًا صغيرًا محدود الآفاق، وكان خير من يعلم أن انفصام الوحدة العثمانية معناه تشتتها إلى أجزاء ووقوع تلك الأجزاء جزءًا جزءًا في حكم الدول الغربية.
وهو ينتمي إلى طور من أطوار التفكير الإنساني لا يعرف لتنظيم الحياة السياسية إلا أساسًا واحدًا، نستطيع أن نسميه وحدة الحضارة أو وحدة التماسك التاريخي. وهذه الوحدة لا تتنافى مع انفصال الأوطان بل ولا تتعارض مع تعلُّق الناس بأوطانهم الخاصة، ولا تشترط إلا عدم فناء الكل في الأجزاء. وهذا النوع من التنظيم لا يستلزم حتمًا الخضوع لحكومة واحدة بل قد يُكتفى فيه بوحدة الدين أو الثقافة أو الشريعة. وفي ظل هذا النوع من التنظيم السياسي تتنوع السياسات، فمن زعمائه من يحاول منع قيام الوحدة السياسية حرصًا منه على استقلال جزئه، ومنهم من يحاول تقوية الجزء ليسيطر على السلطة العامة عند وجودها، كما أن منهم من قد ينقل تلك السلطة العامة لنفسه. هذا من حيث العمل في النطاق الداخلي، أما عن العمل الخارجي فالسياسات متنوعة، فمن الحكام من يتأثر بفكرة المحافظة على نوع الحضارة فيتجه عمله للجهاد، ومنهم من يتأثر بفكرة نشر تلك الحضارة بالاستعمار وما إلى ذلك.
هذا موقف مصر أيام محمد علي في العالم العثماني، اتخذ من مصر قاعدة العمل فأنهضها وقوَّاها ومدها في نطاق اتساعها الطبيعي نحو منابع النيل وعلى ساحلي البحر الأحمر. ثم سمت همته لأن يقود العالم العثماني ملائمًا بين غابره وحاضره، ملائمًا كذلك بين حاجاته وحاجات الإنسانية جمعاء، ورأت أوروبا المعاصرة أن مصالحها تقتضي بقاء ذلك العالم على حاله (وإن اختلفت في الجزئيات) فتألبت لإفساد مشروعه.
وعلى هذا النحو انتظمت مصر لأحوالها الحاضرة.
وقد بنى العاهل الكبير البناء وأحكمه، فلم يستطع من جاءوا بعده إلا السكنى فيه؛ فلا هم بقادرين — من جهة — على مغادرته والسكنى خارجًا عنه، وليست لديهم — من جهة أخرى — الوسائل لهدمه وإقامة غيره.
ورث خلفاؤه خطته الكبرى في التحرير وإطلاق القوى، وزادوا عليه فرفعوا الهيمنة وحرروا الإنتاج وأطلقوا السوق، واستجابوا لمقتضيات المركز الجغرافي فوصلوا البحرين وشيدوا الإمبراطورية الأفريقية. أما في السياسة العمرانية فإنهم اقتفوا أثره، فشقوا الترع ومدوا السكك الحديدية، وشيدوا المراسي التجارية والمصانع، وأعادوا تخطيط المدن وفن الحاجات الحديثة.
وخرجت الحياة العامة والخاصة في عهدهم من بساطتها الأولى وزادت مطالب الناس، فأدى هذا إلى ازدياد تشعب الأنظمة الإدارية والقضائية، وإلى فتح أبواب جديدة في التعبير الأدبي والفني وخلق أدوات جديدة للاتصال الفكري كالتمثيل والصحافة.
هذا جانب من الصورة، أما الجانب الآخر الأسود فأصله يرجع إلى اشتداد الهجوم الأوروبي في شتى صوره على أقطار العالم غير الأوروبية وتسابق الدول الأوروبية بعد خروجها من عهد الحركات القومية والدستورية إلى بسط سلطانها على بقاع العالم.
وقد عرفت مصر كل أنواع الهجوم الأوروبي، خبرت منه استثمار الأموال ومشروعات توظيفها، ووسائل نشر الثقافات والدعايات والمذاهب. يشد أزر هذا كله الترغيب والترهيب ووسائل الفتنة والإغراء والوعود وبث بذور الانقسام، ثم خبرته في النيابة قهرًا وذلًّا.
هذا أصل من أصول الجانب الأسود من الصورة، وهناك أصل آخر يرجع إلى السياسة العثمانية ومكرها وخبثها. لقد أنزلت تلك السياسة الخاسرة بمصر إسماعيل من الأذى ما لا سبيل إلى إنكاره؛ فعملت على إفساد الأمر على الخديوية المصرية توهمًا منها أن ذلك مما يعيد للسلطنة العثمانية شوكتها الماضية ومجدها الغابر، ولم يجنِ الثمرة غير الاستعمار الأوروبي.
ثم أصل ثالث: أول ناحية من التباعد بين الفقراء والأغنياء، زاد غنى الأغنياء وزاد فقر الفقراء، وكثرت مظاهر الترف والنعيم كما كثرت مظاهر البؤس والشقاء. وبينما كانت في الماضي (في عهد محمد علي نفسه) عيشة الفقراء لا تختلف في طبيعتها عن عيشة الأغنياء اللهم إلا في جودة الصنف وما إلى ذلك، جدت للعيش آلات لا يعرفها الفقراء واتخذ الأغنياء لعيشهم وملاهيهم وتثقفهم أشياء خاصة بهم.
هذه أول ناحية، يأتي بعدها انفصال «أبناء» الصفوة التي خلقها محمد علي عن معية خلفائه، لقد شب هؤلاء الأبناء في بحبوحة من العيش نسوا أصلها وتوهموها مجدًا متأصلًا في بيوتهم؛ ففصلوا مصيرهم من مصير الخديوية، ونفذوا من مفاوضات إسماعيل العديدة وأنظمته المستقلة عن معيته إلى تكوين الخطط السياسية المستقلة، وظهر منهم بذلك أول جيل من السياسيين الإداريين المصريين.
وكان برنامجهم ضيقًا محدودًا، نسبوا كل شيء للحكم المطلق أو لسوء النظام الإداري، فظنوا أن إصلاح النظام أو تقييد الإطلاق كفيل بكل خير، وفاتهم أن الواجب الأول هو التكاتف في دفع الهجوم الأجنبي من جهة والاستماع لأنات الفقراء الحقيقية. ووقفوا من هذين الأمرين موقفًا قصير النظر، فظن منهم ظانون أنهم يتخذون من الأجنبي حليفًا ينقلون الحكم بواسطته من الحاكم المطلق لأنفسهم نقلًا مستترًا بستار النظام النيابي في بعض الأحوال وصريحًا بغير ستار في البعض الآخر، وعالجوا الحركة العرابية أسوأ معالجة؛ لم يفطنوا لما وراءها من شكاية حقة ولم يتخذوا نحو زعمائها أو مبادئها خطة عادلة حازمة صريحة، ووقع بينهم الدس والتشجيع ووخز الإبر الفاشل أو الاستتار والمداراة، وانهارت الزعامة مع الخديوية.
وهكذا حدثت كارثة سنة 1882م، وتلاها تقسيم الإمبراطورية الإسماعيلية، وخروج أمر مصر من يد بنيها. وحاولت سلطات الاحتلال البريطاني أن تخدم شتى المنافع والمصالح، فنصَّبت من نفسها مدافعًا عن الطبقات الاستغلالية أجنبية أو مصرية، ولكنها حاولت أن تجذب إليها الفقراء بإذلال الحكام الطبيعيين، واختطت حدودًا للنمو وفق سياسة اجتماعية ضيقة النطاق؛ فلا تعليم إلا بقدر حاجات المصالح ولا تشجيع للحياة العقلية الحرة ولا صناعة ولا تجارة، وأسوأ من هذا كله أنها أنكرت الصيحة: «مصر للمصريين» وردَّت عليها متسائلة بلسان عميدها كرومر: ومن هم المصريون؟ وقد شغل نفسه في أواخر أيامه بوضع دستور لمصر يشرك في حكمها جميع ساكنيها، وهو نظام يقوم على إنكار القومية المصرية، وكان أشبه ما يكون بما عرفته السلطنة العثمانية القديمة وسمَّته باسم نظام الملِّيَّات.
وخطر الاحتلال البريطاني كان شديدًا، كان سمًّا مخدرًا بطيئًا، تجنب التطرف والعنف، كان مرن الأساليب حريصًا على إرضاء الناس فيما لا يهم. وانخدع به بعض من خلَّفهم العهد السابق له، ولولا ما كان من قيام جيل جديد من الشبان هام بحب الوطن كما هو هيام العاشق، ولولا ما كان من أحداث الحرب العالمية الأولى لخشينا على أنفسنا الاستكانة له.
وجاء بعد تلك الحرب دور تسوية الموقف، وهو الدور الذي نعيش فيه، دور حافل بعودة الملكية لمصر بعد اختفائها عنها مئات السنين وبما تنطوي عليه هذه العودة من المعاني الجليلة، وحافل بإنشاء النظام الدستوري وتقرير الحقوق واضحة وبما ينطوي عليه هذا الإنشاء من وسائل الرقي والتقدم، وحافل بالمنشآت العلمية والأعمال العامة في الزراعة والصناعة والتجارة والمواصلات.
واستجابت مصر واستجاب العرب بحكم طبيعة الأشياء فقامت جامعة الأمم العربية على الأسس المتفقة مع مقتضيات الحاضر.
ولكن — مع هذا كله — لا يستطيع المنصف أن يخفي على نفسه وجود إحساس عام قريب من الشعور بشيء من خيبة الأمل وقلة التصديق بأن الإيمان يحرك حقيقة الجبال عن مواضعها. ربما كان ذلك لأن الدنيا لا تتغير بالسرعة التي نريد، وربما كان ذلك لأن أفئدتنا تتقسمها دعوات وتيارات متضادة، ولأنَّا قل أن يفسح لنا الزمن لنميز غثها من سمينها ولإظهار ما في الأمور البراقة من زيف.
وأن خير دواء لهذه الحالة النفسية لهو العمل، والعمل — بالمعنى الشافي — أي العمل الحر المسئول الذي لا يكون إلا بالحدِّ من هذه البيروقراطية القاتلة. إن أمة من الأمم لا تحكم نفسها إذا اقتصر الأمر على التصويت في الانتخابات العامة، ولا تحكم أمة نفسها إلا بأن تترك للجماعات: للقرية وللمدينة وللنقابة وما إليها، أمر إدارة شؤونها الخاصة فيعتاد الناس تحمُّل المسئولية وضبط النفس ووزن الأمور.
إنا ندعو الناس للوثوق بنا، أفلا نثق بأنفسنا؟
أَمَامَكَ فَانْظُرْ أَيَّ نَهْجَيْكَ تَنْهَجُ؟ | طَرِيْقَانِ شَتَّى: مُسْتَقِيْمٌ وَأَعْوَجُ |