عاد السندباد المصري «الدكتور حسين فوزي» من سفره الطويل، وقد عوَّدنا أن يعود محملًا بالطرائف وأن يشرك قارئيه في التمتع بلذة الذكرى والفرج بعد الشدة وما عانى من مشقات الطريق. ويحاول الدكتور فوزي أن يخفي ما عانى، فزعم أن لا فضل له في هذا الكتاب إلَّا أنه رسم خطته ونظم فصوله، وأضاف أمرًا له خطورته فقال إنه نظمه تبعًا لانفعالاته الشخصية بتاريخ بلاده، وأضاف أيضًا أمرًا آخر له خطورته مؤداه أن الحقيقة في مسائل الرأي بعيدة المنال.
ويقول الدكتور فوزي أنه منذ زمان طويل وهو يطمع في وضع كتاب على هامش التاريخ يكون صورة من ملحمة هذا الشعب الذي يفخر بأنه واحد من آحاده، وجاءت ثورة يوليو 1952م فأحس فيما يشبه الإلهام بأن فجرًا جديدًا صحيحًا لا كاذبًا قد طلع في أفق التاريخ المصري، وربما كان ذلك الفجر هو الذي أنار له طريقه إلى تأليف هذا الكتاب الذي لم يكن في الإمكان كتابته قبل أيام هذه الثورة.
وقد وصف الدكتور فوزي نفسه بأنه ليس مؤرخًا، وإن كان غير مجرد تمامًا من الإحساس بالتاريخ، وأنه اعتمد في كتابته على الخلجات الروحية التي أشار إليها، وعلى ما طالع من كُتب الأولين والآخرين في تاريخ بلاده، وعلى القليل الذي عاشه من ذلك التاريخ بلحمه ودمه وتفكيره، فكتبه في بحبوحة الأدب والفن: حرية في الفكر وتحرر في الأسلوب. فكتابه أدبي محض، وطلب أن يحاسب عليه في حدود الأدب والفن، إلا أن واجبه نحو حقائق التاريخ اقتضاه أن يذيله بمجمل لتاريخ مصر، ورجا القارئ أن يلقي عليه نظرة سريعة قبل البدء بمطالعة الكتاب على أن يعود إليه كلما دعاه إلى ذلك داعٍ.
ويقول الدكتور فوزي أن دوره كان أشبه بدور المخرج السينمائي الذي لا يكتب القصة، ولا يستخلص السيناريو، ولا يضع الحوار، ولا يصمم الديكور، ولا يعمل مع أجهزة الإضاءة، ولا يمثل ولا يصور، إنما هو يستخدم كل ما تضعه حرفة السينما وصناعتها وفن رجالها ونسائها بين يديه من ممكنات ليجمع ذلك في صورة تتجلى في ذهنه أولًا، وقد ينجح في تنفيذ الصورة الذهنية وقد يخيب.
ومعنى هذا فعلًا أنه رجع للنصوص وكوَّن منها المادة أو الصورة، بل إن بعض فصول الكتاب عبارة عن نصوص تاريخية عُدلت تعديلًا طفيفًا. ومهمة المؤلف لم تزد حسب قوله عن مجرد ترتيب الوقائع ترتيبًا دراميًّا؛ هذا الترتيب الدرامي له أثره في أسلوب الكتاب من أوله آخره، في الموضوعات التي أثبت، والموضوعات التي أهمل، في التحول إلى العامية في بعض الألفاظ وبعض التراكيب.
وسنرى أن الترتيب الدرامي أدى إلى انحراف المؤلف عن قصده، كان قصده أن يكون كتابه — كما قال — شعب نامه لا شاه نامه؛ ولكن الدراما انتهت بأن تكون شاه نامه لا شعب نامه، فلا تكون دراما إلا حول أحداث جسام، ولا تكون أحداث جسام إلا حول الذين اقترنت أسماؤهم بتلك الأحداث الجسام.
وإليك البيان بأقسام الكتاب الثلاثة:
أولًا: الظلام وبه مشاهد الفتح العثماني، وقدوم الفرنسيين، وما جرى بين علي باشا الطرابلسي والمماليك، وارتقاء محمد علي الولاية، وترجمة أغنية شعبية تُبكي المجندين؛ ثم آراء المؤلف فيما كان يجب أن يكون عليه الاقتباس في الحضارة العربية.
ثانيًا: الخيط الأبيض والخيط الأسود، ومشاهده: ألف عام، وصراع القومية المصرية، وثلاث ملكات (أم خليل، وبنت الزمار أي كليوباطرة، والصعيدية أي حتشبسوت)، والقيراط الخامس والعشرون.
ثالثًا: الضياء ومشاهده: من قبل التاريخ، ومن الحضارة المصرية القديمة.
ولنبدأ — كما طلب إلينا الدكتور فوزي — بالمجمل في آخر الكتاب، وهو مجمل جيد حقًّا وجودته في أجزائه القديمة أظهر، فما تعلق منه بالحضارة المصرية القديمة مستند إلى دراسة حقيقية للآثار، والانفعال هنا مشروع، وما تعلق منه بالمسيحية في مصر به أصالة، وهو مما يجهله أو لا يهتم به الدارس المصري. ومن صفات المجمل عنايته بهذا الموضوع، وكلما تقدَّم بنا الزمن نحو زماننا كلما غلبت على صفة الانفعال ما يضين بالحكم المتزن، ولا يهدي نحو التقدير الصحيح.
***
نحن الفُرس، نحن المقدونيين، نحن الرومان، نحن الروم، نحن العرب: المغاربة، الكرد، أبناء فرغانة وكردستان، نتوكل بأمر الحرب … إلخ.
أما أبناء مصر فصناعتهم بناء الحضارة، ولكن ألم يتكون أبناء مصر ممن كانوا عربًا ومغاربةً ورومًا … إلخ.
كتاب الدكتور فوزي ممتع لأقصى حدود الإمتاع، ولكنه خطر لأقصى حدود الخطورة، وإنا لا نزال نترقب كتابه شعب نامه.