لا نستطيع أن نقول إن المؤرخين المصريين قد قاموا بما ينبغي عليهم نحو تاريخ الأزهر، فتلك العجالات أو النبذات التي أُعدت ونُشرت للمناسبات المختلفة لا يمكن أن تسمَّى تاريخًا للأزهر وإن حملت ذلك الاسم. وهذا الكتاب الذي نشره الشيخ راضي الحنفي بعنوان «كنز الجوهر» ما هو إلا تلخيص سقيم للفصول المتعلقة بالأزهر من الخطط التوفيقية لعلي باشا مبارك؛ وهذه الفصول لا تزال إلى وقتنا الحاضر خير ما يرجع إليه القارئ في موضوع الأزهر.
وتقع هذه الفصول في الجزء الرابع من المجلد الأول من الخطط (ص10–41)، هذا إلى إشارات عديدة للأزهر ورجاله وشؤونه في مواضع عديدة متفرقة من الخطط. ويمكن القول بصفة عامة إن كلام علي باشا مبارك أتم وأوفى بالنسبة للعهد العثماني والعهد المحمدي العَلوي منه بالنسبة للعصور التي سبقت ذلك. وقد جمع مبارك باشا مادته من المراجع التاريخية المتداولة، اللهم إلا بعض الوثائق الرئيسية كحجج أوقاف بعض السلاطين والأمراء.
ولا أعرف أحدًا رجع إلى الوثائق الأصلية، بل لا أعرف أحدًا ابتدأ بحصر تلك الوثائق، فنحن إذًا في البداية وأمامنا بعد كل شيء.
على أن الإنصاف يقتضي أن أشير بصفة موجزة لدراسات مثمرة تكوَّن منها ومن مثيلاتها صفحات تاريخ الأزهر. فبالنسبة للعصر الأول «العصر الفاطمي» أعتقد أن اتجاه الدكتور كامل حسين الأستاذ بكلية الآداب نحو بحث ما يتعلق بالدعوة الفاطمية في مصر وفي غيرها من الأقطار الإسلامية ونحو نشر النصوص، اتجاه مثمر يستحق التنويه ويستحق أن نرجو من وراء مثابرته وجده علمًا حقيقيًّا بأصول الأزهر وتاريخه الأول. أما بالنسبة للعصر التالي «العصر الأيوبي» فأعتقد أن دراسة الدكتور إبراهيم سلامة الأستاذ بكلية دار العلوم لنظم التربية والتعليم الإسلامية (وهي موضوع رسالة لدرجة الدكتوراه في الآداب)، قد جمعت مادة قيِّمة لتاريخ المدارس وتاريخ الأزهر وكشفت عن أسباب تدهور المدارس في عصور المماليك والعثمانيين، ونهوض الأزهر جامعة إسلامية بالمعنى الدقيق. وأما بالنسبة للأزهر في العهد العثماني فقد عالجه عن طريق تراجم الرجال مؤرخ أزهري هو الشيخ زكي غيث في مجموعة تراجم شيوخ الأزهر في القرنين الحادي عشر والثاني عشر التي نشرها في العدد الأول من المجلد الثاني من المجلة التاريخية المصرية (مايو سنة 1949م)، وسنرى بعد قليل مزايا طريقة الشيخ زكي غيث لدرس تاريخ الأزهر. وأخيرًا يجب عليَّ أن أشير إلى دراسة الأستاذ «كريزويل» للأزهر من ناحية العمارة والآثار فيما نشر من تاريخ العمارة الإسلامية، وهو مؤلف ضخم نُشر منه في الشهر الحالي الجزء الثالث ويتعلق بعهد الإخشيديين والفاطميين. ولعل من تلاميذ الأستاذ «كريزويل» الأثريين المعماريين المصريين من يتبع أستاذه في درس الأزهر من الناحية المعمارية الأثرية، ثم يُخرج لنا باللغة العربية ثمرات ذلك الدرس.
وتدلنا الدراسات التي خصصتها بالذكر على أربعة أنواع من المباحث أعتبرها أساسية: فالنوع الأول أثري معماري، والنوع الثاني ديني صرف، والنوع الثالث نظام تعليمي، والنوع الرابع تراجم الرجال؛ وتقوم الأنواع الأربعة على الوثائق الأصلية.
ويصح أن أقول إن الأزهر من جهته، وأخواته الصغرى الجديدة من جهتها، قد كونت نخبة من الشبان المؤرخين يصلحون كل الصلاحية لأن يضطلعوا بالمهمة الكبرى: مهمة تاريخ الأزهر على النحو الذي أشرت إليه، بشرط أن ينظم العمل والتوجيه. وقد تشرفت بالعمل ممتحنًا لرسائل العالمية من درجة أستاذ، ولم يختر طالب ما موضوعًا تاريخيًّا متصلًا بجامعته! ولن يتم — في رأيي — فهم صحيح وإدراك حقيقي لأحوال الأمة المصرية إلا بتاريخ الأزهر.
فلنخصص إذن لإيضاح هذه الحقيقة صفحة من تاريخ الأزهر، ولتكن القرون: الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر؛ وهي الفترة التي ترجم الشيخ زكي غيث لشيوخ الأزهر في جزء منها، ولندرج كلامنا عنها في الأنواع الأربعة التي رسمناها للمباحث الأزهرية.
فمن حيث العمارة كانت الإضافات والتجديدات العظيمة المقترنة باسم الأمير عبد الرحمن كتخدا، ويبلغ من عظمتها وجلالة قدرها أننا يمكننا بحق أن نعتبر هذا الأمير من بناة الأزهر المنشئين.
ولنتحدث بإيجاز عن منشآته: ذكر الجبرتي في ترجمته سنة وفاته (أي سنة تسعين ومائة وألف) أن الأمير المشار إليه أنشأ في مقصورة الجامع الأزهر مقدار النصف طولًا وعرضًا. ويشتمل على خمسين عمودًا من الرخام تحمل مثلها من البواتك المقوصرة المتسعة من الحجر المنحوت، وسقف أعلاها بالخشب النقي وبنى به محرابًا جديدًا ومنبرًا وأنشأ له بابًا عظيمًا جهة حارة كتامة، وبنى بأعلاه مكتبًا بقناطر معقودة على أعمدة من الرخام لتعليم الأيتام القرآن، وجعل بداخله رحبة متسعة وصهريجًا عظيمًا وسقاية لشرب العطاش المارين. وعمل لنفسه مدفنًا بتلك الرحبة وجعل عليه قبة معقودة وتركيبة من رخام بديعة الصنعة، وجعل بها أيضًا رواقًا مخصوصًا بمجاوري الصعايدة المنقطعين لطلب العلم؛ يُسلك إليه من تلك الرحبة بدرج يُصعد منه إلى الرواق، وبه مرافق ومنافع ومطبخ ومخادع وخزائن كُتب. وبنى بجانب ذلك الباب منارة وأنشأ بابًا آخر جهة مطبخ الجامع وجعل عليه منارة أيضًا. وبنى المدرسة الطيبرسية وأنشأها إنشاءً جديدًا وجعلها مع مدرسة الآقبغاوية المقابلة لها من داخل الباب الكبير الذي أنشأه خارجهما جهة القبو الموصل للمشهد الحسيني؛ وهذا الباب الكبير عبارة عن بابين عظيمين كل باب بمصراعين وجعل على يمينهما منارة وجعل فوقه مكتبًا أيضًا وبداخله مع يمين السالك بظاهر الطيبرسية ميضأة وأنشأ لها ساقية لإجراء المياه إليها. وبداخل باب الميضأة درجًا يُصعد منه للمنارة ولرواق البغداديين والهنود؛ فجاء هذا الباب وما بداخله من الطيبرسية والآقبغاوية والأروقة من أحسن المباني في العِظم والوجاهة والفخامة، والباب هو باب المزينين، والآقبغاوية هي مكتبة الأزهر حاليًّا.
وبعد فما وجه اتصال هذا بإيضاح تاريخ مصر؟ نقول: إن من أمراء مصر قرب نهاية العصر العثماني من استطاع أن يجاري أعظم سلاطينها وملوكها وخلفائها في العصور السابقة في العمارات العظيمة والمآثر الهندسية والخيرية الكبرى. وإن العصر الذي عاش فيه أمير كعبد الرحمن ووُجد فيه من رجال الهندسة والفنون والصناعات الذين تولوا تنفيذ مشروعاته وتوافرت فيه الموارد للإنفاق عليها، لا يمكن عده بحال عصر تدهور أو انحطاط وإن علينا جميعًا أن نراجع وأن ننقح أقوالنا فيه. وإذا أضفت إلى عمارات عبد الرحمن كتخدا إنشاء الأمير محمد أبو الذهب لجامعه التعليمي المشهور المقابل للأزهر، تأكدت من صحة ما ذهبنا إليه من وجوب تأخير نسبة التأخر لذلك العصر إلى عهد مراد بك وإبراهيم بك — أي إلى قُبيل الحملة الفرنسية — ولا نحتاج إلى دليل فعمارته بسيطة بين عمارات عبد الرحمن في الأزهر وغيره، وعمارة مراد بك بجامع عمرو تدلك على أن التدهور كان حقًّا سريعًا جدًّا.
وعلى ذلك فعبد الرحمن كتخدا يستحق ترجمة جيدة، وعماراته التي أكسبت الأزهر شكله الحالي بصفة شبه تامة تستحق رسالة مفصلة من جانب أحد تلاميذ «كريزويل» المصريين.
ومن حيث التاريخ الديني الصرف، فأهم ما يلاحظ على الفترة التي حددناها الاتجاه التصوفي الغالب عليها، وقد أرخه الدكتور توفيق الطويل تأريخًا جيدًا. ولا محل للمقارنة بين النزعة الصوفية في ذلك العصر وبين ما سما إليه الفكر الصوفي الإسلامي في العصور السابقة. إنما الذي يلفت النظر هو اختفاء ما كان بين الفقهاء ورجال التصوف في بعض الأزمنة السابقة، وانتظام العلماء جميعًا تقريبًا في أهل الطريق، نخص بالذكر من هؤلاء: الشيخ الحنفي المتولي لمشيخة الأزهر بين سنة 1171 و1181هـ، والشيخ عبد الله الشرقاوي المتولي للمشيخة بين سنة 1208 و1227هـ.
والذي يحتاج إلى بحث من هذا الموضوع أمران: الأول دراسة الطرق من حيث التاريخ الاجتماعي، والثاني دراسة الطرق من حيث نظام الدولة.
والمسألة الثانية من مسائل التاريخ الديني هي الكيفية التي استقرت بها مناهج الدراسة الدينية وأثر الأزهر في ذلك الاستقرار، وهذه لا تزال في حاجة إلى البحث الوافي. من ذلك ما نلحظه من اختفاء الدرس الحر أي المستقل عن الجامعة الأزهرية، بحيث إذا حدث شيء من ذلك نبه إليه المؤرخ المعاصر وتحدَّث عنه. وإليك ما ذكره الجبرتي في ترجمته الرائعة لأستاذه الكبير السيد مرتضى الزبيدي صاحب تاج العروس وشرح الإحياء، المتوفى سنة خمس ومائتين وألف، وهو صاحب الفضل الأول في توجيه الجبرتي نحو التاريخ، وربما كان آخر العلماء أصحاب الدروس الحرة (بالاصطلاح لكلمة حرة). وقد مكَّن للسيد مرتضى من إقامة الدرس المستقل أمور: أولها بطبيعة الحال فضله ومواهبه، ثانيها تشجيع بعض الكبراء له، ثالثها طريقته. فمن هذه حرصه على جمع الفنون التي أغفلها المتأخرون كعلم الأنساب والأسانيد وتخاريج الأحاديث واتصال طرائق المحدثين المتأخرين بالمتقدمين، ومنها كونه غريبًا وعلى غير صورة العلماء المصريين وشكلهم، ويعرف اللغة التركية والفارسية بل وبعض لسان الكرج … إلخ. وكان درسه بجامع شيخون بالصليبة يومي الاثنين والخميس، وكانت له دروس أيضًا في بيوت الأعيان فيذهب إليهم مع خواص الطلبة والمقرئ والمستملي وكاتب الأسماء فيقرأ لهم شيئًا بحضور الجماعة وصاحب المنزل وأصحابه وأحبابه وأولاده وبناته ونسائه من خلف الستائر وبين أيديهم مجامر البخور بالعنبر والعود مدة القراءة، ثم يختمون ذلك بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم على النسق المعتاد؛ ويكتب الكاتب أسماء الحاضرين والسامعين حتى النساء والصبيان والبنات واليوم والتاريخ، ويكتب الشيخ تحت ذلك «صحيح ذلك» وهذه كانت طريقة السلف كما روى الجبرتي في الكُتب القديمة … إلخ.
ومن حيث النظام التعليمي فهناك عدة مسائل منها تحقيق الزمن الذي أنشئت فيه مشيخة الأزهر؛ فالمعروف أن الشيخ الخرشي أو الخراشي من علماء القرن الحادي عشر هو أول من تلقب بلقب شيخ عموم وأن ذلك كان سنة 1090هـ، ويقول الشيخ زكي غيث في بحثه: إن الأزهر قديمًا كان يتولاه الولاية العامة سلاطين مصر وأمراؤها ويباشر شؤونه الداخلية مشايخ المذاهب الأربعة ومشايخ الأروقة يعاونهم خطيب المسجد والمشرف ومعاونوه من العمال والخدم. وفي عهد سلطنة برقوق (القرن الثامن) عُين للأزهر ناظر، والناظر من الأمراء ينوب عن السلطان في الإشراف على شؤون الأزهر والسهر على رعاية مصالح أهله. ثم اقتضى نمو الأزهر واتساع أرزاقه وإدارته ومصالح أهله وجود شخص يتفرغ للإشراف على شؤون هذا المعهد الدينية والإدارية معًا، ويكون رئيسًا لشيوخ المذاهب والأروقة وسائر علماء الأزهر وطلابه، ومسئولًا مباشرةً أمام الولاة والسلاطين؛ ويصح جدًّا أن يكون الأمر كذلك ولكن ليس لدينا نص أو نصوص بهذا الأمر الخطير. والغريب أن ينشأ منصب ذو خطر كالمشيخة بلا مقدمات وبلا تنظيمات وبلا تحديد، ويقتضي كل ذلك التحقيق العلمي؛ واستمر عدم التحديد وعدم التنظيم يصاحبان تاريخ المنصب زمنًا طويلًا. والظاهر أن القاعدة جرت بأن يعتمد ولي الأمر من يُجمع عليه العلماء، ولكن هذا الإجماع أو شبهه كان لا يتم إلا بعد أزمة يشتد فيها الخلاف اشتدادًا كبيرًا أو صغيرًا، ويرجع الخلاف أحيانًا إلى تعصُّب لشخص بناءً على مذهبه أو على موطنه. وأشد الأزمات تلك التي حدثت بعد موت الشيخ الدمنهوري (1192هـ) بين أنصار الشيخ عبد الرحمن العريشي الحنفي وأنصار الشيخ أحمد العروسي الشافعي، وانتصر الشوام والتُّرك وبعض الأمراء للعريشي، وقاوم الشافعية ما عدوه اغتصابًا لحق الشافعية في المشيخة، وبلغ الخلاف حد الاصطدام واستخدام القوة. وفي وقتٍ ما حُلت الأزمة بإقرار العريشي شيخًا للحنفية، والعروسي شيخًا للشافعية، والدردير للمالكية، وخلص الأمر بتقليد العروسي المشيخة؛ وكانت القاعدة على العموم أن من يتقلدها من الشافعية يكون في نفس الوقت شيخًا للمذهب.
والمسألة الثانية الخاصة بشيوخ المذاهب وهي مناصب أقدم من مناصب شيخ العموم وكيف تطورت، والمسألة الثالثة حقوق الأروقة وشيوخها وهكذا؛ كل هذه مسائل نملك بشأنها معلومات عديدة ولكن لا بد من تحقيق الكثير منها بالرجوع إلى الوثائق.
ومن حيث تراجم الرجال أعتقد أن ما نشره الشيخ زكي غيث عن الشيوخ يكفي ليدل القارئ على ما احتواه تاريخ الرجال من مادة قل أن تجاريها مادة في الشخصيات والمواهب والأطوار. وخُذ على سبيل المثال الشيخ علي الصعيدي العدوي المالكي المتوفى سنة 1189هـ، قال صاحب الخطط: بلغ من نفوذه وعلو كلمته وجاهه أنه هو السبب في إنشاء الأمير عبد الرحمن كتخدا لرواق الصعايدة وللخير العظيم الذي أجراه الأمير على أبناء الصعيد، وقيل إنه لحبه للصعايدة من أجل الشيخ جعل مدفنه بجوار هذا الرواق وقد دُفن فيه فعلًا؛ وقد اتخذ أكابر الأزهر هذا المدفن قديمًا مجلسًا يجتمعون فيه عند المشورة في المهمات ولنفوذ الشيخ علي أيضًا. استقرت مشيخة الرواق من عدة أجيال في المشايخ العدوية لكثرة العلماء به من بني عدي. وإليك مثلًا آخر: الشيخ أحمد العدوي الشهير بالدردير المتوفى سنة إحدى ومائتين وألف شيخ المالكية، فعندما ثار جماعة من أهل الحسينية بسبب ما حصل من هجوم الأمير حسين بك على منازلهم ونهبها حضروا إلى الأزهر، وذهبوا إلى الشيخ الدردير فساعدهم بالكلام وقال لهم: أنا معكم وفي غد نجمع أهالي الأطراف والحارات وبولاق ومصر القديمة وأركب معهم وننهب بيوتهم كما ينهبون بيوتنا ونموت شهداء أو ينصرنا الله عليهم … إلخ. أو الشيخ محمد عليش في الأزمنة القريبة وهكذا.
ولم يواجه أهل الأزهر مسائلهم الخاصة فحسب بل واجهوا المسائل العامة مواجهة مستمرة.
ولعل فيما أثبت ما يكفي لإظهار ما ذهبت إليه من أن تاريخ مصر لا يُفهم إلا بفهم تاريخ الأزهر، ولعل فيه أيضًا ما يشوق أبناءه الأفاضل للقيام بما عليهم نحو تحقيق تاريخه وإخراج ذلك التحقيق لكافة الناس.