صاحب المجد النبيل، مندوب حضرة صاحب الجلالة مولانا الملك المعظم.
شاء الله أن يخرج محمد علي من موطنه الأول في تركية أوروبا إلى ميدان خليق بالأبطال، إلى مصر، وأن يدخلها في ساعة من الزمان هي أيضًا خليقة بالبطولة، دخلها وحيدًا فريدًا في أوانه. لم يصطنعه وزير أو أمير بل ولا سلطان، ولم يقدمه قنصل أو سفير بل ولا إمبراطور، ولم يكن مخلوق حزب أو أداة جماعة من الناس.
نَفْسُ عِصَامٍ سَوَّدَتْ عِصَامَا
وعَلَّمَتْهُ الكَرَّ والإِقْدَامَا
وصَيَّرتْهُ مَلِكًّا هُمَامَا
ولم يدبر حوادث ارتقائه ولم يرتب فصولها ترتيب المؤلف القصص، ولم يداهن، ولم يتظاهر بما ليس فيه. ولكن كان الناس هم الذين يتوجهون إليه، هم الذين يرون فيه رجل الموقف. وقد قَبِل إجماع الناس عليه، وتولى الأمر على مشقاته، ولكن على أن يسير فيه على نهج من وضعه، على أن يستجيب لماضي مصر وحاضرها، فيلائم بين ذلك الحاضر وعالم مضطرب بحيوية الثورة، وحضارة أوروبية ملكت أدوات الزحف والاكتساح شعارها الدائم من وقف مات.
أدرك منذ اللحظة الأولى أنه لم يلِ أمر باشوية، بل جلس على عرش مملكة عظيمة، كل ما حوله فيها يشهد بما كان لملوكها وسلاطينها، وأن عناية الله سلمته حكم أمة واحدة يدر نيلها وأرضها الفيض العميم. مهدته مواهبه لنهج يحقق به رجاء الناس، فيصون أرواحهم وأموالهم وأعراضهم، ويرتقي بهم درجات إلى ما لم يكونوا يعهدون.
وكانت الساعة حقيقة بالبطولة، فقد فتحت حوادث الثورة الفرنسية ومقتضيات الثورة الصناعية الكبرى أعين السياسة لمصر ولغيرها. ألم يسبق توليته نزول جيش فرنسي بمصر؟ ألم تكن تتداعى القوة الإسلامية في الهند نحو الانهيار النهائي؟ ألا يحس كل عثماني بضغط الدول على السلطنة وتوغل القوة الروسية في اتجاه إيران والإمارات الإسلامية الآسيوية؟ فالأمر إذن لا يحتمل التأجيل، وإعزاز مصر والإسلام يتطلب العمل السريع، والإصلاح الشامل والقوة التي تصون الكرامة: قوة الحديد والعلم والمال.
***
وها هي مائة عام تنقضي على سكون تلك النفس الوثابة، نقف عندها خاشعين، مترحمين، نرسل على مر الأيام تحية الوفاء والإعجاب إلى ذلك الجناب المهيب، المتألق بجلال المشيب ونور المجد، ونقول:
أيها المولى الكبير، إن جيلنا أيضًا عرف كجيلك حرب الأمم، وأنها تنفذ إلى أعمق ما في النفس الإنسانية وأنها لا تقف عند وقف القتال، وإن عصرنا أيضًا شهد كعصرك أدوات جديدة يضعها العلم في يد الإنسان، فتزداد القدرة على الخير وعلى الشر أضعافًا مضاعفة، وإن عصرنا يفد إليها — كما وفد إلى مصرك — الدعاة يدعون — كما دعيت أنت وكما دعى شعبك — لهذا الوضع أو ذاك من أوضاع التنظيم الاجتماعي. وإن جيلنا قد جدت له مشكلات لم تستعصِ على فكرك الثاقب وعزيمتك الماضية، فهو بعد يسعى لتحديد ما بين الفرد والجماعة، وهو بعد يتردد في تفسير واجبه نحو تلك الحصة من العالم التي ينتمي إليها وطنه.
أيها المولى العظيم: هذا ما يجيش في نفس المصري يوم يحتفل بذكراك العطرة، وأخالني أسمع الصوت الرهيب: لقد خلفت لكم أبنائي الملوك، وخلفت لكم سيرتي، وهما عهدي إليكم، ونعم العهد.
ولقد تهيأ لمحمد علي الكبير أول اختباراته للسياسة الكبرى في عصر الإمبراطورية النابليونية، فكأنه رآها بعين الميكروسكوب يكبر أجزاءها ويظهر كل ما دق من معالمها. وتأثر بنظرته الأولى تلك طول حياته، ففهم سر الحركة، وأنها تستطيع أن تغيِّر كل شيء. هذه خريطة أوروبا مثلًا، الظاهر أن نابليون يستطيع أن يفعلفيها ما يشاء، فهذه عروش قديمة تزول كأن لم تَغْنَ بالأمس، وهذه الإمبراطورية الفرنسية نفسها تزول بعد حين. وفي مدى تلك السنوات الضيق يتجمع الشيء الكبير من القواعد الأساسية في تشكيل العلاقات السياسية الكبرى: التفوق البحري البريطاني، موقع الروسيا ومواردها، تسخير قوى الإنتاج وتنظيمها لخدمة غايات قومية. وبهرته الحركة تمامًا، إذ صادف ذلك هوى في نفس مشرئبة طموحة، وكان يمقت العبث والإسراف والتبديد ولا يطيق أن يرى الخراب أو ما هو صائر إلى خراب. قال: «إن نيلنا لوطن عديم النظير كهذا لهو من النعم الجسيمة، وعدم القيام بالسعي والاجتهاد في عمارته يكون عين الكفر بالنعمة، وهذا ما لا تقبله شيم جبلتي وتأبى نفسي أن أكون شريكًا لكم في ذلك». ولهذا كثر إطلاق الوصف «الخيري» أو «الخيرية» على الكثير من منشآته، فقد رام بها الخير بمعنى أوسع مما جرى به الاستعمال، وكاد يرتفع في نظره بناء القنطرة من مرتبة الأعمال النافعة أو العامة إلى مرتبة العبادة والاعتراف بأنعم الخالق عز وجل. وذلك — كما قال الشيخ رفاعة — «إن منافع مصر العمومية قد تمكنت كل التمكن من الذات المحمدية العلوية وتسلطت على قلبه وأخذت بمجامع لبه، وإنه عمل تمامًا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من لم يحمل هم المسلمين فليس منهم».
ومن دول المسلمين إذ ذاك دول حاولت أن تقتبس من الحضارة الأوروبية ما ارتضته من النظم العسكرية والإدارية ثم وقفت عند ذلك أو ظنت أنها تستطيع أن تقف عند ذلك، ومنها دول حاولت الإصلاح بإحياء الحياة السلفية، والغاية لها خطرها وكل مجتمع جدير بهذا الاسم لا يستغني عما يربطه بأسلافه، كما أنه لا يستطيع أن يبقى إذا اعتبر نفسه في حرب دائمة ضد حاضره وضد مستقبله. ولكن كان الوصل بين الماضي والحاضر سر الإصلاح المحمدي العلوي كله؛ فهو تجديد ومحافظة، فبينما يستشهد بسياسته التعليمية مثلًا أنصار تعليم العلوم الحديثة، نجد أنصار المحافظة على الآداب والعلوم الشرقية القديمة يشيدون بعمله فيقولون إنه علم العلوم الحديثة ولكن باللغة العربية، وأنشأ المدارس الجديدة ولكن على أساس تعليم عربي إسلامي منتشر في كل مكان. وفي الزراعة أيضًا يحتفظ للأرض بقانون الفلاحة فيخرجها من مجال التبادل الحر ويُخضع شؤونها لهيمنة ولي الأمر ممثل المصلحة العامة، فهذه محافظة يصحبها تجديد بل وثورة في نظام للري عرفته مصر منذ أن كانت وتوارثته الأجيال جيلًا بعد جيل، وإصلاح في طرق الزراعة وأساليبها، وتنويع في حاصلاتها. وفي التجارة كان الأمر إحياءً وبعثًا لمركز مصر في تجارة العالم. وفي الصناعة يكاد يكون الأمر كله تجديدًا، فقد عقد العزم على إنشاء الصناعة الكبرى كما عرفها القرن التاسع عشر.
وقضى بهذا على فكرة المشاركة والمقاسمة في الأموال العامة، وأقام مكانها العمل على إحياء الموات، فوقف الخراب عند حد ثم ارتد أمام تقدُّم العمران، ورفض الفكرة القائلة بأن الإنسان يستطيع أن يفعل بما تملكه يمينه ما يشاء. وأكد حق ولي الأمر بل واجبه في توجيه الجهود الفردية نحو غايات اجتماعية، فخرج بذلك عن الحد الذي رسمه بعض مفكري عصره عندما قصروا واجب الحكومة على المراقبة والحماية عند الاقتضاء فحسب، ولكنه اقتصر في تقييد حرية الفرد على الدائرة الاقتصادية، ولم يتجاوزها إلى دائرة الحياة الروحية، بل تركها طليقة من أي قيد، لا سلطان فيها إلا للضمير وللدين. وبعد، أليست هذه أنفس أنواع الحرية؟! بل أليست هذه هي الحرية؟!
ولم يبالِ بالبحث عن أي المذاهب يتدرج فيه نظامه. رأى فيه أتباع سان سيمون محقق الحلم الذي حلموه، وأشادوا بالرجل الذي يجمع في يد واحدة السيف والآلة، ويتخذ منهما أداة واحدة، يوجه الزراعة والصناعة والتجارة والعلوم والفنون ويسيطر على الجيش والأسطول؛ فاستطاع بذلك أن يكبح جماح عناصر الجمود والرجعية وأن يطلق العنان للقوى المنتجة. وعبَّر بنتام عن إعجابه بالحاكم المسلم الذي حرر نفسه من خزعبلات الماضي، وعن أمله في أن يُدخل في أنظمته قدرًا أوفر من البنتامية. ويشير عليه أتباع مدرسة مانشستر بأن يصرف جهوده لزرع الغلات التي تطلبها المصانع الأوروبية وأن يترك الصناعة للأقطار الصناعية بحكم الطبيعة. ويستمع محمد علي لأولئك ولهؤلاء، ويستخدم أولئك وهؤلاء، لا يثنيه عن الانتفاع بشخص غرابة في الأطوار أو غلوه في بعض الاتجاهات، ولا يأبه عند المصلحة العامة بفوارق الجنس واللغة والدين، فالمخالطة شرط العمل المثمر، وقد عدها الشيخ رفاعة أكبر ما أقدم عليه، قال: «فلو لم يكن له من المحاسن إلا تجديد المخالطات المصرية مع الدول الأجنبية بعد أن ضعفت الأمة المصرية بانقطاعها المدد المديدة والسنين العديدة لكفاه ذلك، فقد أذهب عنها داء الوحشة والانفراد، وآنسها بوصال أبناء الممالك الأخرى والبلاد لنشر المنافع العمومية واكتساب السبق في ميدان التقدمية».
طلب العلم والمال لاصطناع قوة الحديد، فكوَّن الجيش على الوجه الذي أوجدته الديمقراطية الفرنسية وليدة الثورة الفرنسية؛ أي التجنيد العام، وسوى بذلك أمرًا طالما استعصى على الحكومة الإسلامية، فكان سر اضطرابها وتزعزع كرسيها ونفاد مواردها. وكتب في ذلك إلى ناظر الجهادية: «إن مؤسسة الجهادية هذه أعزها الله، لهي في حد ذاتها نعمة جليلة وأمنية بلغ من شرف قدرها أني مازلت منذ عشر سنين متعللًا برجاء إدراكها، قائلًا: أيكون لي أنا الآخر سعادة نيلها؟! بل ما فتئت ألقي بنفسي وأولادي وعيالي وبعرضي ومالي وذلك العدد الكبير من أتباعي وأصدقائي الذين هم غرس يدي وثمرة تعهدي ألقي بكل أولئك في المهالك وأعرضهم للمضار والأخطار آملًا إحداث هذا السلك الجهادي». وكان له ما أراد، وأنشأ الأسطول، وشهد بنفسه في ساعات الفجر والضحى والزوال وفي أيام الحر والقر كتل الخشب والحديد ولفات الحبال والقماش تتحول في أيدي المصريين غلايين وفرقاطات، وكان يوم إنزال السفينة في البحر كاملة العدد والعدة من أيامه المشهودة.
وكانت قوة الحديد في نظره وسيلة لا غاية، لم تكن إلا آلة العيش الكريم، فقد كان بطبعه كارهًا لسفك الدماء، مؤْثرًا الاعتدال. استعرض الشيخ رفاعة حروبه حربًا حربًا وانتهى إلى الملاحظة الدقيقة وهي أن تلك الحروب «لم تكن من محض العبث ولا من ذميم تعدي الحدود، إذ كان جُل مقصوده تنبيه أعضاء ملة عظيمة تحسبهم أيقاظًا وهم رقود».
أجل، لقد رسم لنفسه منذ الأيام الأولى مشروع إحياء العالم العثماني وسار في تنفيذه بخطى ثابتة متئدة، فرفض أن يتخذ من مصر موطنًا محدود الآفاق، ضعيف الآمال، ورأى السلامة في الوحدة لا في التجزئة، والقوة والرفاهية في إدارة عقل واحد لملك متنوع الموارد، متنوع السكان، يملك أقصر الطرق بين الشرق والغرب.
ففي جنوب الوادي، كوَّن من الإمارات والشياخات والجماعات وطنًا جديدًا، وهيأ لذلك الوطن وجودًا ومستقبلًا بين مناطق الأحباش والقبائل البدائية ومناطق الزحف الأوروبي الذي كان قد أخذ في الاقتراب نحو قلب القارة الأفريقية من الأطراف الساحلية، ثم ربط هذا الوطن بحياة الإنسانية، فكانت مصر الصلة في ذلك الربط. هذا ما قدَّم محمد علي وهذا ما قدمت مصر، صنع الله له ولها جزاء ما قدما. وأخرج البحار العربية من سكونها وركودها فعادت تجري فيها الحياة وأوضحت شريانًا من شرايين الحياة التجارية العالمية، وأعاد لمصر وللشام ما كان بينهما من الاتصال التاريخي التليد. وتصور لهذا كله قوامًا وكيانًا، واستعد لأن يُدخله في النظام العام على أساس تضامن الأمم وتعاونها لجلب المنافع ودرء المفاسد، وكان في هذا سبَّاقًا.
ولكن الحلول السلبية تغلبت على الحلول الإيجابية، والمنافع العاجلة على الخير الدائم، ونالت معاول الهدم من البناء ما أرادت، ولكن بقي من ذلك المشروع العظيم الصرح الشامخ الذي أقامه في مصر، نستخرج من رسومه وأجزائه وأهدافه ما نستكمل به تصوير كل ما قدَّر وكل ما اعتزم. ذلك الصرح غربي شرقي، هو غربي في قبوله الفكرة الحديثة، فكرة الدولة التامة السلطان، يخضع لها الجميع وتتكفل بواجبات الدولة في العصر الحديث، شعارها — بل وروحها — السماحة، لا لأنها تجردت من الصفة الدينية أو قصرت دائرة عملها على المصالح الدنيوية أو قامت على نوع من الفصل بين الدين والسياسة، بل كان ذلك لاعتبارها أن الحياة الاجتماعية في العصر الحديث قد تطورت تطورًا يسمح عمليًّا بقبول فكرة التعاون لتحقيق أغراض سياسية واجتماعية بين أناس يختلفون دينًا، ولكن تربطهم روابط الوطنية. غربي في أدوات السلطان: الإدارات الحكومية الكبرى والصغرى المعروفة. غربي في كيفية إعداده للفنيين اللازمين للمصالح العامة، في تكوين الصفوة من الرجال، تلك الصفوة التي عمل عملًا متواصلًا على تنشئتها وتربيتها.
وهو بعد شرقي صميم في طبيعة العلاقة بين الحاكم وأعوانه، فقد كانوا جميعًا على اختلاف أصولهم يتفقون معًا في شيء واحد، في أنه لهم هو ولي النعم. تعهدهم بالتعليم، وقلدهم المناصب، وعهد إليهم بخططه، ونفث فيهم من همته وآماله، وأنعم عليهم ورفع قدرهم. وقد وضع علاقته بهم لا على أساس السيد والمسود، بل على أساس آخر: علاقة الأب بأبنائه، يأخذهم باللين أحيانًا، وبالشدة أحيانًا أخرى، كما يأخذ الأب أبناءه باللين والشدة وهذه أوامره الحكومية قل أن تجد لها شبيهًا في أوامر الحكومات. فكانت في جمعها للنصح والترغيب والترهيب وضرب الأمثال والإشارة إلى أن منفعة الرعية ومجد الوطن متوقف على ما نيط بعمال الحكومة أداؤه، صورة صادقة لشخصية هذا العاهل الكريم. وهذه أيضًا طريقته الإدارية، جعل لكل شان من الشؤون العامة ديوانًا، وكان لا يتخذ قرارًا في مسألة ما إلا بعد أن يستمع لآراء المجلس المختص بها؛ ذلك لأنه لم يكن حاكمًا فحسب بل كان طوال مدته مربيًّا ومكونًا للرجال. تحدَّث مرة إلى رؤسائهم في اجتماع تاريخي فقال: «إن المماشاة والموافقة في الأمور المضرة بالمصلحة والأصول الموضوعة من أعظم الجرائم، فيجب تجنب ذلك، حتى إذا كنت آمر أحدكم شفاهًا أو تحريرًا بقولي له: «أجرِ المادة الفلانية بهذه الصورة»، وحصل منه اعتراض علي وذكَّرني وأفادني شفاهًا أو تحريرًا بأن المادة المذكورة مضرة فهذا يكون منه عين ممنونيتي الزائدة».
لقد عمل محمد علي وجيل محمد علي للمستقبل، حرم نفسه وحرم رعيته من أكثر ما غله الكد المتواصل في الزراعة والصناعة والتجارة، فكان شأنه في ذلك شأن المشتغل بعمل صناعي ينفق ربح كل سنة في الإضافة والابتكار ولا يمسك منه إلا نزرًا يسيرًا، وهذا سر تمكُّنه من القيام بكل ما قام به بدون أن يستدين. وقد كان معاصروه يتوقعون لمصر الإفلاس سنة بعد أخرى، وفي كل سنة لا يحدث شيء مما كانوا يتوقعون. قال مرة لزائر أجنبي: «انظر ماذا ترى حولي من هيئة الباشوات، لم يبقَ منها الكثير، بعض القواسين ذوي العصي المفضضة، وبعض الدواوين. ولكن كان نقش خاتمي دائمًا محمد علي».
عمل للمستقبل وكان شر ما يزعجه شبح الزوال، فكانت الحسرة تملأ نفسه والأسى يتقطع فؤاده كلما تقدمت به السن أو لاح هذا الشبح، زوال ماذا؟ زوال دور الصناعة والأساطيل والمصانع والمدارس والمعاهد والجسور والقناطر، زوال كل ما أنشأه هو وشعبه بعرق الجبين بل وبالدم. أيستطيع أن يسمح بانتقال هذا التراث لأيدي الإهمال والتبديد والتخريب؟ كلا، لن يكون ذلك، فقد سرت أفكاره العمرانية في العقول، وتحولت من برنامج رجل إلى برنامج أمة بأسرها، واتسعت معاني العزة والكرامة والشرف لتفيد عزة الوطن وكرامة الوطن وشرف الوطن.
ولن يزول شيء فقد خلف لمصر أبناءه الملوك وجيلًا مطواعًا من الجنود والفلاحين.
ولقد قال في آخر أيامه مخاطبًا رجاله: «سيحصل لكم من عائلتي ما حصل لكم مني مادامت الحياة وقتًا فوقتًا».
ونحن نقول: وسنكون لأبنائك الملوك ما كان آباؤنا لك، دعوتهم فأجابوا، وحملوا راية الجهاد في الحقل والمصنع ودار الصناعة ودار العلم وقُدتهم من نصر إلى نصر، بين السهل والحَزن، في السودان، والجزيرة العربية، والمورة، وفلسطين، ولبنان، وسوريا، والأناضول؛ لقد شقوا لنسعد وكدوا لنهنأ.
وها نحن في يوم الاحتفال بذكراك الخالدة على مر الدهور، أيها العبقري الذي لم يعرف معنى النَّصب، نجدد العهد لسرك ووصيك، الملك المفدى، تنطق ألسنتنا بما في قلوبنا: لبيك ليك.