في أغسطس عام 1849م انتقل محمد علي الكبير إلى دار البقاء بعد أن سجل لبلاده نصرًا عظيمًا في صفحة الخلود، وحق على مصر الناهضة الوفية أن تحيي ذكرى مفاخره ومآثره وأن تشيد بها الآن وعلى مر السنين.
وحق على الأمة العربية أن تعرف فضل من عرف حق العرب فقدَّر أن العروبة يمكن أن تكون أساسًا للبناء السياسي، وحق على الأمم الغربية أن تعرف فضل رجل السماحة والأفق الواسع الرجل الباني رجل الحلول الإيجابية؛ الرجل الذي فهم ما انطوت عليه انقلابات عصره الاجتماعية والسياسية، فبنى خططه على أساس تضامن الأمم وتعاونها لجلب المنافع ودرء المفاسد فكان سبَّاقًا.
وُلد هذا الرجل الكبير ونشأ في القسم الأوروبي من العالم العثماني، كان مولده في المدينة البلقانية «قولة» وهي مدينة بحرية صغيرة ذات أسوار، وتاريخ مولده على المشهور سنة 1769 الميلادية. وهو تركي عثماني مسلم لا يمت للألبانيين ولا لصقالبة مقدونية ويونانها بسبب أو نسب، ونشأ نشأة عملية صرفة فتعلَّم أصول دينه واستعمال السلاح وركوب الخيل، ولما ترعرع كان يشترك في التجريدات التي كانت توجهها حكومة المدينة لتعقب قاطعي الطريق أو لتحصيل أموال الدولة؛ فكانت حياته في قولة حياة مرح ونشاط ومغامرات وسعادة. وشاء القدر أن يخرج محمد علي عن وطنه الأول قولة إلى وطنه الثاني مصر، إلى ميدان خليق بالأبطال، وأن يدخلها في ساعة هي أيضًا خليقة بالبطولة.
وكان الآذن بذلك الخروج نزول جيش فرنسي يقوده الجنرال بونابرت بأرض مصر في صيف 1798م، وتصميم الدولة العثمانية متحالفة مع إنجلترا وروسيا على إجلاء الفرنسيين عنها؛ وكانت مصر عندما أغار عليها بونابرت في قبضة عصابات مسلحة من المماليك ورجال القبائل، عاثت في البلاد فسادًا وزادت في فقر الأهلين ونزلت بالمستويات الثقافية والمعنوية والفنية إلى أضعف ما عرفت مصر في تاريخها الطويل.
وكانت فعال تلك العصابات وقلة حيلتها في الحرب الجدية من أقوى ما أغرى الفرنسيين بغزو مصر في سنة 1798 ميلادية؛ انتصرت الجيوش الفرنسية انتصارًا سريعًا في ظاهره سطحيًّا في حقيقته ولكنهم ما لبثوا أن أرغموا على مغادرة البلاد بعد احتلال مضطرب دام ثلاثة أعوام.
ولم تكن تلك الأعوام الثلاثة عهدًا سعيدًا للمصريين فقد كان الحكم الفرنسي حكمًا عسكريًّا شديدًا عميقًا، ولم يكن الإصلاح الذي فكروا فيه أو الدواوين التي استحدثوها أو البحث العلمي الذي شرعوا في إقامة قواعده مما يجتذب إليه المحكومين إلا بطول الزمن والاستدامة. فكره المصريون الحكم الفرنسي وقاوموه: ثار أهل القاهرة ثورتين عنيفتين، قام الفلاحون كلما سنحت لهم فرصة، وابتهج أهل مصر لما انسحب الجيش الأجنبي من بلادهم أيما ابتهاج.
قدَمَ محمد علي مع القوة العثمانية التي تجمعت في تركية أوروبا وقد اصطلح على تسميتها بالقوة الألبانية لأن أكثر رجالها كان منهم، وخدم في تلك القوة وترقى سريعًا في رُتبها العسكرية ولكنه لم يكن منها ولا فيها بأكثر من ذلك. فبقي وحيدًا فريدًا في خططه وأمانيه ومراميه، لم يصطنعه أمير أو وزير أو سلطان ولم يقدمه قنصل أو سفير أو إمبراطور، ولم يكن مخلوق حزب أو أداة جماعة، كما أنه لم يدبِّر حوادث ارتقائه ولم يرتب أصولها ترتيب المؤلف فصول المسرحيات، ولكن كان الناس هم الذين يتجهون إليه، هم الذين يرون فيه رجل الموقف.
ولما قبِل إجماع الناس عليه وتولى أمر الباشوية في سنة 1805م كان ذلك على أن يسير فيها على نهج من وضعه هو. فقد أدرك منذ اللحظة الأولى أنه جلس على عرش مملكة عظيمة، وأن إنقاذ مصر والعالم العثماني لا يحتمل التأجيل بل يتطلب العمل السريع والإصلاح الشامل والقوة التي تصون الكرامة: قوة الحديد والعلم والمال. وتغلَّب رويدًا رويدًا على مغتصبي الحقوق الشرعية وأصحاب السلاح، وكان أشد ما عانى من فعل العشائر الألبانية فإن زعماءها هم الذين اشتطوا في ابتزاز الأموال وأزعجوا الناس الآمنين.
وكانت تلك السنوات الأولى سنوات كفاح وهدم وتبديل وتعديل لم يحبها هو … وعندما زاره الأمير بكلر مسكارو فيما بعد ولاحظ له أن وقائع تاريخه الأول ليست معروفة تمامًا قال له محمد علي: أنا لا أحب تلك الفترة من حياتي، إن تاريخي الحقيقي يبدأ عندما فككت قيودي وأخذت أوقظ هذه الأمة من سبات الدهور.
بدأ محمد علي عثمانيًّا مسلمًا وعاش وانتهى عثمانيًّا مسلمًا، وكانت مهمته كما حددها من أول الأمر إلى آخره إحياء القوة العثمانية في ثوب جديد لعصر جديد.
وهو في موقفه هذا شبيه كل الشبه بصلاح الدين وأمثاله من الأعلام الذين حاولوا أن يتخذوا من قسم من أقسام دار الإسلام أداة لبعث الحياة في الجسم كله، ولكنه يختلف عنه وعنهم في أمر مهم وذلك أنهم قاموا بالإحياء أو حاولوه لغرض غير غرضه؛ لقد كان غرضهم مواصلة الجهاد ضد دار الحرب أما هو فقد تلاشت عنده دار الحرب تمامًا بل رمى إلى أن يبوئ العالم العثماني الجديد مكانًا في العالم الذي خلفته الانقلابات الاقتصادية.
وأنفق في إحياء مصر لتُحيي العالم العثماني كله نحو نصف قرن من الزمان، وواصل فيها العمل ليل نهار على رأس جيل صبور جاد مطواع من فلاحي مصر وجنودها؛ فقضى على تشتيت السلطان وتجزئته وأقام الدولة الجديدة يخضع لها الجميع وتتكفل بواجبات الدولة في العصر الحديث. شعارها بل وروحها السماحة، لا لأنها تجردت من الصفة الدينية أو قصرت عملها على حد المصالح الدنيوية أو قامت على نوع من الفصل بين الدين والسياسة، بل كان ذلك لاعتبارها أن الحياة الاجتماعية في العصر الحديث قد تطورت تطورًا يسمح علميًّا بقبول فكرة التعاون لتحقيق أغراض سياسية واجتماعية عامة. وقضى على فكرة المشاركة والمقاسمة في الأموال العامة وأقام مكانها العمل على إحياء الموات فوقف الخراب عند حد، ثم ارتد أمام تقدُّم العمران وأكد واجب ولي الأمر في توجيه الجهود الفردية نحو غايات اجتماعية؛ فخرج في ذلك عن الحد الذي رسمه بعض مفكري عصره عندما قصروا واجب الحكومة على مهمة المراقبة والحماية عند الاقتضاء فحسب.
وبنى على هذا الأساس خططه الاقتصادية ومشروعاته التعليمية، ولكنه لم يتجاوزها للتدخل في دائرة الحياة الروحية في أية ناحية من نواحيها فتركها طليقة من كل قيد لا سلطان فيها إلا للضمير وللدين. وبعد، أليست هذه هي أنفس أنواع الحرية بل أليست هي الحرية؟ وقضى على العصابات المسلحة وأقام مكانها الجيش الوطني إذ أن الفرد لا ينبغي له أن يحمل سلاحًا إلا بإذن السلطان ولأغراض السلطان، وتخلصت الجماعة بذلك من الاضطراب والفتن والحرب الداخلية وأصبحت أمة تملك أداة العيش الكريم، أما أدوات السلطان فالإدارات الحكومية الكبرى والصغرى المعروفة … أما قانونه الأساسي فدستور غير مكتوب يتركب من مبادئ قديمة ومن مبادئ جديدة ويستمد وحدته من إرادة محمد علي، تسري هذه الإرادة في العمال كبيرهم وصغيرهم على يد الصفوة من الرجال التي عمل على خلقها وإحكام أمرها طول أيامه. وقد استند لدعم البناء إلى انتشار أفكاره العمرانية في النفوس وإلى أن تلك الأفكار قد تحولت من برنامج رجل واحد إلى برنامج وطني، واستند أيضًا إلى أن معاني العزة والكرامة والشرف قد اتسعت لتنفيذ عزة الوطن وكرامته وشرفه؛ تلك هي القوى المعنوية والحسية التي قام عليها البناء كله وقد أصبحت حقائق وهي نعم الأساس لأي دستور.
قال محمد علي في منشور له من تلك المنشورات الممتعة التي يعبِّر بها عن كل ما يجول في خاطره: «إن نيلنا لوطن عديم النظير كهذا هو من النعم الجسيمة وعدم القيام بالسعي والاجتهاد في عمارته يكون عين الكفران بالنعمة».
وقال مرة لصديقه الدكتور بورنج: «لا تعجب إذا رأيتني أحيانًا عجولًا قليل الصبر فقد كنت في حياتي كلها موفقًا، ميمون النقيبة، لا بد أني وُلدت والطالع سعيد والنجم مبتسم، ثم لم تفارقني بعد ذلك سعادة الطالع وابتسام النجم». شخصية مشرقة في حالتي الرضا والغضب في العمل للمصالح الكبرى وفي شؤون البلاد كل يوم وفي المجاملات الصغرى، وهو أيضًا شخصية إنسانية لا تتكلف ما ليس من سجيتها، ذوقه ذوق البساطة الأنيقة، تملأ العيون هيبته بإشعاع من خَلقه وخُلقه. تلك هي هيبته في ركوبه وفي منزله، يفيض على من حوله من سحر الحديث وأدب المجلس ما بهر القريب والغريب وفعل في النفوس ما لا تفعل أبهة الحراس والحاشية والحُلل المبهرجة والسيوف المنتقاة. قال مرة لزائر أجنبي: انظر ماذا ترى حولي من هيئة الباشوات لم يبقَ منها الكثير: بعض القواصين أصحاب العصي المفضضة، وبعض الدواوين، ولكن كان نقش خاتمي دائمًا «محمد علي».