الكاتب: محمد حسين هيكل
الناشر: مجلة السفور
تاريخ النشر: 24 ديسمبر 1915
المناسبة: مقالة ضمن ثلاثة مقالات نُشِرَت أثناء الحرب العالمية الأولى، دافع فيها الدكتور هيكل عن السلام وما تفيده الإنسانية والحضارة منه، في مناظرة بينه وبين الدكتور طه حسين دافع فيها عن دور الحرب في حياة العالم.
عفوًا يا سيدي الدكتور طه حسين. ما كنت أحسب أن يصل بك الجدل، فيخرجك عن طوقك، ويجعلك ترمي مُناظرك مرة بأنه يعرف الحق، ثم يأبى إلا أن يتعلق بأهداب الخيال، وأخرى بأنه جزع واله، وثالثة بأنه لا يجد ساعة يسمع فيها للعقل الهادئ دون سواه. قد يُعذر صاحب الرأي عند مناظرته خصمه إذا هو التجأ إلى المغالطة والسفسطة. قد يُعذر إذا قال إن الحرب والسلم كالطب والمرض؛ ذلك لأن من الممكن افتراض حسن نيته في مغالطته أو سفسطته، ولكن لا عذر له حين يرمي مُناظره بما ينفر منه الذوق، ولا يرتضيه الأدب. وما كان لنا مهما رأينا فيما تقر من عوج في الرأي، أن ندَّعي عليك أنك تقول ما لا تعتقد، أو إنك تطرح العقل جانبًا حين تكتب.
ما هو على وجه الضبط الخلاف الذي بيننا؟ الخلاف أن الدكتور طه يرى أن الحرب كانت وستبقى أساس المدنية، وأقول إنها كانت مظهر الوحشية، وآية تعس الإنسانية، وإنها لذلك ستزول من العالم.
ولست أدري كيف يمكن أن يقول قائل ببقاء الحروب، أو كيف يدَّعي مُدَّعٍ أنها كانت إلى جانب خير الإنسانية أميل منها إلى جانب الشر لها.
كل ما قاله طه حسين، ليثبت أن الحرب كانت أساس فلسفة اليونان، أنها جمعت بين مختلف شعوب الإنسانية، ومكنت أفرادها من الاختلاط والتفاهم، وذلك هو عين ما يُقال عن الحروب الصليبية، ومعنى هذا من غير شك هو أن الحرب لم تكن سبب انتشار الفلسفة، ولكن سببها كان احتكاك الأفكار وتشعب المذاهب وتنافس المتناظرين، مما أذكى ما في العقل الإنساني من ضياء. ولا نحسب متمنطقًا يستطيع مهما بلغ من دقته أن يدَّعي أن الحرب كانت وستبقى سبب اختلاط بني آدم، أو مصدر التنافس الإنساني المتطلع إلى السعادة، ثم لا نحسبه يرى أن جمع الحرب بين الشعوب هو ذلك الخير الأعم الأكمل الذي يغطي على ما في الحرب من فظائع، وعلى ما تجيء به من مصائب وويلات.
فلكم اجتمعت الشعوب من غير حرب، وكم قامت المبادئ والفلسفات من غير حرب، وكم خطت الإنسانية فيما وصلت إليه من طريقها من غير حرب، في حين كانت الحرب في كل أدوارها مظهر الفظاعة والقسوة، وقيام الحيوانية الشنيعة بظلمها لإخضاع الرحمة، والعدل.
نقول هذا فيقول الدكتور طه وبعضهم معه إنا نسترسل مع عواطفنا، ونترك خيالنا يتحكم فينا، ولا نسمع لما ينادي به عقلنا. يا عجبًا كل العجب! أخيالٌ هي الدماء السائلة والأرواح الزاهقة والآثار المحطمة؟ أم خيال هو استبداد فرد أو جماعة صغيرة بملايين من الناس يرسلون بهم يلقون حتفهم، ثم يكون أحسن حظ لمن بقي منهم الرضى من الغنيمة بالإياب؟
وهل استرسال مع العواطف ذكر هذه الوقائع، وتذكر ماضي الإنسانية، وتقدير الخطى القليلة التي سارها بنو آدم في سبيل الرقي، والحكم على الحروب بعد ذلك بأن مصيرها للزوال؟
لسنا ننكر إنا نستعين مع عقلنا في الحكم بحواسنا وشعورنا، ولكن عملنا هذا هو وحده الذي يضمن لنا الوصول إلى الحق. فإن النظر للأشياء بالعقل المجرد وادعاء المنطق لتسيير العالم كان في كل العصور سبب الوقوع في الخطأ، ذلك بأن المنطق إذا هفا من نقطة فسدت النظرية التي تعتمد عليه. وعقلنا لم يحط إلى اليوم بكل الأشياء والحوادث علمًا. فمنطقنا عرضة للوقوع حتمًا في الخطأ إذا نحن قصرناه على القليل من العلم الذي لدينا، وهل خطأ أكبر من القول بأن الفلسفة ابنة الحرب جمعت بين مختلف الشعوب؟ أم خطأ أتعس من القول بأن الحضارة نتيجة الحرب، مع أن الحرب علم الموت، والحضارة ابنة الحياة. لهذا لا نرى محلًا لأن يتمدح متمدح بمنطقه الدقيق في الوقت الذي لا يعتمد هذا المنطق إلا على الكساء اللفظي الذي يحتويه، فإن أنت أجلت فيه نظرة انهار، وتداعى.
ليتلمس معنا من شاء طريق الإنسانية من الماضي، وليسر معه بعد ذلك طي المستقبل، وإنا لا نشك لحظة في أنه يصل من بحثه إلى ما وصلنا إليه، من أن الحروب مظهر الوحشية الحيوانية في الإنسان، وأن أوقاتها لحظات ينطفئ فيها نور العقل وتتحكم فيها الشهوات القاسية، ويدعي لنفسه فيها أبشع أنواع الإجرام الجمال وحق الوجود. ولطالما جاهدت الإنسانية تريد محوها، ولم ترد الإنسانية شيئًا إلا وصلت إليه. فإذا كان لا يزال من بين بني آدم أنصار للقوة ونصراء للهمجية فما هم إلا بقايا العصور القديمة، وعما قريب لا تبقى لهم باقية، عما قريب تعلم الإنسانية أن محركي الحروب أعداؤها الألداء والدافعون بها في مهاوي الخراب، فتثور عليهم وترمى بهم من عروشهم، وتستمر هي في طريقها، طريق التنافس السلمي إلى نعيم الحياة.
نعم … غدًا تفيق الإنسانية من سباتها، ويرى الناس هذه الجرائم التي ارتكبوها مدفوعين إليها بآراء المتعسفين القساة من حكامهم، وسوف تفيق إفاقة طويلة دائمة.
كفاها تلك الإفاقات المتقطعة جاهدت فيها لنوال حقوقها المتهضمة، ورمت بالظلَمة المستبدين إلى الأرض، ثم رجعت إلى غفلتها، فرجعوا إلى ظلمهم. وكفاها ما مضى من الإخفاق في جهادها للوصول إلى السعادة، وإن ما يجري اليوم من بحاء الدماء، وما يجلل العالم من سواد الحزن، وما يمزق القلوب والأحشاء من الأسى والألم، كل ذلك يجعلنا نأمل أن ستكون هذه الإفاقة الطويلة الدائمة قريبة منا، وأن الإنسانية ستحرص بعد الذي رأت من ويلات هذه الأيام أن تعود إلى مثلها، وتعيد القتل والتخريب والدمار على هذا النحو الفظيع الشنيع.
لبريق السيوف ولأصوات المدافع ولمنظر الغازات الخانقة مهابة وجلال، ولكنها مهابة عزرائيل وجلال الجحيم، وما عهدنا بالموت والعذاب موارد لنعيم الحياة ورفاهة الحضارة، وإنما النعيم والرفاهة في التنافس السلمي المبني على الإخاء والرحمة والعدل. والتاريخ يشهد، والواقع يؤيده، أنه ما حل الظلم بأرض إلا اضمحلت أمامه الحضارة وتضاءلت الحياة، فإذا كانت الحرب علم الموت ومقدمة الظلم، لم يبق لها أن تكون أساس العمران والمبشرة بالسعادة. وهل سمعنا أنين فرنسا إلا بعد أن أرهقتها حروب نابليون، وجعلتها بعد أن كانت سيدة العالم تشتغل بتضميد كلومها الدامية تاركة من سواها من الأمم تتقدم تحت ظل السلام على حسابها؟ أم هل أصاب تركيا ما أصابها من ضعف إلا بعد أن أسرفت في الحروب، حتى أقعدتها الحروب عن مكاتفة الأمم؟ وهل لا يعد فقد هذه القوى العظيمة بعد أن عطلتها الحروب خسارة جسيمة على الإنسانية وعلى المدنية؟ ثم يقال بعد ذلك إن الحرب أساس الحضارة!!! كلا … كلا.
إنني أخشى أن تأخذ صديقي الدكتور طه حسين حدة الشباب ونشوة المحافظة على المبدأ فيعمد إلى تأييد رأيه بالشدة التي رأيناها في مقاله الأخير، ولكني أرجوه أن يتمهل قليلًا، إنه مسافر بعد يومين أو ثلاثة من ظهور هذه المقالة لينزل بين أظهر الفرنساويين، فلينتظر حتى يكون هناك على مقربة من الحرب، وحيث يستقي المعلومات الصادقة عن آثارها، ثم ليخبرنا بما يرى، وأرجوه ألا يضن علينا بما يجيبه به الجرحى والثاكلات واليتامى، وبما يفيده أقطاب علماء هذه البلاد. أرجوه أن يسأل بعض الاقتصاديين منهم عما ستخلف الحرب من الأضرار المادية وغير المادية، ولعله بعد أن يسمع شكوى العلماء وأنات الجرحى وتلهفات المفجوعات واليتامى يكون أقل حدبًا على رأيه وأكثر نزوعًا إلى نصرة السلم، واعتباره أساس المدنيات في العالم. ولعله كذلك إذا قرأ تواريخ الحروب بنقد أدق مما قرأها به من قبل رجع إلينا مبشرًا أنصار السلام ومحبي الإنسانية باقتراب عصر السلام والرحمة والنور على الأرض.